بقلم: عبد الباسط سيدا* يبدو أن التوافق الغربي الإيراني أو بتعبير أدق التوافق الأمريكي الإيراني هو في طريقه إلى العلن وهو الأمر الذي يُستشف من التصريحات والتحركات ويستنتج من بعض خطوات تعزيز الثقة كإطلاق سراح المواطنين الإيرانيين البريطانيين من جانب السلطات الإيرانية وحصول إيران في المقابل على مبلغ 530 مليون دولار من أموالها المجمدة في بريطانيا. هذا على الرغم من بعض الخطوات التصعيدية التي ربما تدخل ضمن سياق المفاوضات لتحسين شروط الصفقة أو ربما لتشتيت الانتباه وشدّ عصب الأنصار والأتباع. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الضربة الصاروخية التي وجهتها إيران إلى أربيل زاعمة أنها استهدفت مركز استخبارات إسرائيلي وهو الأمر الذي لم تؤكده المصادر المستقلة. أما الذريعة فكانت أن الضربة هي انتقام من الهجمات الإسرائيلية على القوات الإيرانية في سوريا أو في الداخل الإيراني وهي ذريعة أقبح من الذنب لأن عملية الانتقام المزعومة كان يمكن أن تتم بصورة أعمق وأشمل إذا كانت فعلاً كذلك من خلال حزب الله في لبنان وهو الأقرب إلى إسرائيل ويمتلك باعتراف زعيمه حسن نصر الله التكنولوجيا الصاروخية التي تمكّنه من الوصول إلى ما هو أبعد من حيفا ويافا. وكان اللافت هو التبني الإيراني العلني للضربة المذكورة الذي جاء بعد بيان وزارة الداخلية في إقليم كردستان العراق الذي حدد من ناحيته عدد ونوعية الصواريخ التي أطلقت وأكد أن عملية إطلاقها قد تمت من خارج الحدود العراقية من دون أن يذكر إيران صراحة وذلك مراعاة لحسابات سياسية مفهومة. ومن الواضح أن الإعلان الإيراني جاء ليكون رسالة إلى الإقليم نفسه وإلى الحزب الديمقراطي الكردستاني تحديداً وإلى التحالف الانتخابي بين الكتلة الصدرية وكتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني وكتلة السيادة وفحوى هذه الرسالة أن إيران لن تسمح بتمرير أي اتفاق يخالف توجهاتها كما كانت الضربة رسالة للإطار التنسيقي مفادها أن إيران لن تتخلى عنه. وفي هذا السياق سيكون من المهم والمثير متابعة رد الفعل الإيراني بعد إعلان تحالف إنقاذ وطن عن ترشيح ريبر أحمد لمنصب رئيس الجمهورية ومحمد جعفر الصدر لمنصب رئيس الوزراء. *حروب المصالح ولكن الصواريخ الاستعراضية كانت في الوقت ذاته رسالة إلى الجانب الأمريكي تؤكد وجود أوراق إيرانية ضاغطة في عملية المقايضات الجارية في فيينا بخصوص ملف إيران النووي وهي العملية التي خيمت عليها أجواء الحرب الروسية التي أعلنها بوتين على أوكرانيا هذه الحرب التي ستكون لها تأثيرات عميقة في طبيعة التحالفات الدولية في المرحلة المقبلة في مختلف أنحاء العالم. ويشار في هذا السياق إلى إعلان الروس في بداية الأمر بعد تسرب معلومات تشير إلى قرب الاتفاق الغربي الإيراني بأنهم لن يساعدوا في نجاحه ما لم يضمنوا مصالحهم وذلك عبر إبقاء العلاقات التجارية مع إيران خارج نطاق العقوبات الغربية التي فرضت عليهم بعد غزوهم لأوكرانيا وقد أثار هذا الموقف امتعاضاً إيرانيا علنياً سرعان ما تم السكوت عنه بعد زيارة حسين أمير عبداللهيان إلى موسكو وتأكيدات سيرغي لافروف أن روسيا قد حصلت من الجانب الأمريكي على ضمانات كافية حول شرطها الخاص بموافقتها على الاتفاق المذكور. من جهة أخرى لا يمكن فصل زيارة بشار الأسد إلى الإمارات لا سيما من جهة أسبابها ومآلاتها وكذلك اجتماع القمة الثلاثي في شرم الشيخ الذي جمع بين كل مصر وإسرائيل والإمارات لا يمكن فصل كل ذلك عن موضوع تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا ونتائج التوصل إلى اتفاق بخصوص النووي الإيراني وانعكاسات كل ذلك على واقع منطقتنا وتأثيراتها في عملية تبلور وتشكل معادلات إقليمية جديدة وذلك في ضوء تطورات ومتغيرات المواجهة الروسية الغربية شبه المفتوحة في الساحة الأوكرانية. فالحرب الروسية على أوكرانيا ستكون لها تبعات وانعكاسات مباشرة في منطقة الشرق الأوسط التي تغلغلت فيها روسيا مجدداً بعد انقطاع. فهي اليوم تمتلك وجوداً مؤثراً في سوريا كما أنها حاضرة في العراق من خلال غرفة العمليات المشتركة (العراق- الحشد الشعبي سورياإيرانروسيا) وحاضرة في ليبيا ولها علاقات تجارية وغير تجارية مع العديد من الدول الخليجية كما أن لها علاقات مع تركيا سواء على صعيد العلاقات التجارية أم على صعيد محور أستانا وسوتشي الذي يجمع بينها وبين تركياوإيران هذا فضلاً عن علاقاتها المتعددة الأوجه مع كل من إسرائيل وإيران. غير أن كل هذه العلاقات ستخضع للمراجعة وإعادة الترتيب إذا ما استمرت المواجهة بينها وبين الغرب وهي مواجهة في طريقها نحو الذروة خاصة بعد قمة بروكسل الأخيرة وذلك بناء على ما يُستشف من الاستراتيجية الغربية غير العادية المعتمدة في التعامل مع الحرب الروسية على أوكرانيا وهي استراتيجية تقوم على ثلاثة أركان رئيسة تغطي الميادين العسكرية والاقتصادية والسياسية. يشمل الركن العسكري تزويد أوكرانيا بالأسلحة النوعية بما يمكّنها من الصمود ومقاومة الغزو الروسي ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مباشرة بين القوات الأطلسية والروسية على الأرض الأوكرانية. هذا إلى جانب تعزيز الوجود الأطلسي من جهة القوات والمعدات في دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو إلى جانب منح كل من السويد وفنلندا امتيازات خاصة من جهة من العلاقة والتعاون مع الناتو. أما الركن الاقتصادي فهو يتضمن تقديم الدعم المالي الذي يمكّن أوكرانيا من مواجهة الغزو الروسي وتبعاته بالإضافة إلى مساعدة الدول المجاورة لها لتتمكن من استقبال اللاجئين الذين من المتوقع أن تبلغ أعدادهم وأعداد النازحين في الداخل الأوكراني مستويات قياسية في الأيام المقبلة إذا ما استمرت حدة المعارك على حالها واستمرت القوات الروسية في قصف المنشآت المدنية والتجمعات السكنية خاصة في المدن الكبرى التي تستهدفها القوات الروسية عادة بوحشية مدمرة وذلك بناء على معطيات ما جرى سابقاً في كل من غروزني وحلب. ولا يقتصر هذا الركن على الشق الخاص بأوكرانيا والدول المجاورة لها بل يتضمن تأمين مصادر بديلة للطاقة التي تستوردها الدول الغربية من روسيا لا سيما بعد إجراء بوتين الأخير الخاص بإلزام الدول الغربية باستخدام الروبل عملة لدفع نفقات وارداتها من الطاقة الروسية هذا إلى جانب فرض العقوبات غير المسبوقة في ميدان التجارة والاستثمار على الشركات الروسية في داخل روسيا وخارجها وعلى المسؤولين الروس والأوليغارشيين الذين يرتبطون بعلاقات معقدة مع النظام الروسي ويمدونه بالقوة الاقتصادية. * ميزان الاقوياء أما الركن الثالث السياسي فهو يتمثل في الجهود الدبلوماسية الرامية إلى استمالة القوى الدولية المرشحة لتقديم أي شكل من أشكال الدعم لروسيا أو على ألأقل تحييدها عبر مختلف أساليب الترغيب والتهديد. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الصينوإيران وفنزويلا والهند والمكسيك والبرازيل وهي الدول التي دفعت بها حسابتها ومصالحها الخاصة إلى توثيق العلاقات مع روسيا والاعتماد عليها في ميادين عدة مثل الطاقة والتسلح والحبوب. هذا فضلاً عن الاصطفاف السياسي معها في العديد من المواقف لا سيما في الموضوع السوري. فالولايات المتحدة تحاول بكل الأساليب إقناع هذه الدول بأهمية الضغط على روسيا لدفعها نحو التوافق على حل واقعي ممكن في أوكرانيا يطمئن الدول الأوروبية خاصة وهي الدول التي بدأت تتلمس بكل وضوح مخاطر النزعة التوسعية الروسية في عهد بوتين. أما بالنسبة إلى منطقتنا فإن إيران تستطيع إذا شاءت أن تساهم في إعادة الأمن والاستقرار إليها وذلك بأن تتحول إلى دولة طبيعية تستخدم مواردها وطاقات وخبرات شعبها وبالتعاون مع مختلف دول الجوار لتساهم في عملية النهوض بالمنطقة عبر مشاريع تنموية طموحة مشتركة مع دول المنطقة مشاريع تحقق تقدماً مستداماً يضمن مستقبلاً أفضل للجيل الشاب والأجيال المقبلة بعيداً عن المشاريع التوسعية التي أنهكت منطقتنا منذ عقود وخلخلت مجتمعاتنا بنزاعات مذهبية قومية أسهمت في زعزعة الأمن والاستقرار وأدت إلى عمليات استنزاف كبرى للموارد بفعل الحروب والفساد. فمن شأن استثمار موارد المنطقة واستغلالها على الوجه الأمثل ضمان مقومات العيش الكريم والتطور المستمر لجميع شعوبها من دون أي استثناء. شعوب المنطقة تتعلم من كيسها كما يقول المثل. وستدرك في نهاية المطاف أن المشاريع العابرة للحدود التي طالما دغدغت المشاعر والعواطف المذهبية والقومية واستغلت المظلوميات كانت كارثية. فهي مشاريع لا تساهم في تحقيق أي مصلحة أو تقدم لأوطانها بل على النقيض من ذلك تبدد الإمكانيات وتفجر المجتمعات وتدمر العمران وكل ذلك يؤدي إلى المزيد من البؤس والفاقة والجهل والتطرف. منطقتنا تمتلك من الإرث التاريخي والحضاري والموارد الطبيعية البشرية والطاقات المعرفية ما يمكّنها من أن تتحول إلى واحة مزدهرة يتحقق فيها التمازح الحضاري المنتج بين شعوبها وشعوب العالم بأسره هذا إذا توفرت الإرادات الواعية القادرة على القطع مع مختلف المشاريع النكوصية التي لم ولن تجلب لنا سوى السراب واليباب.