بقلم: إبراهيم نوار* في وقت شديد الحساسية ألقى كمال خرازي وزير الخارجية الأسبق في إيران بتصريح من شأنه تغيير قواعد اللعبة تماما في الشرق الأوسط. خرازي قال لقناة الجزيرة إنه ليس سرا أن إيران تمتلك فعلا القدرات التقنية لإنتاج سلاح نووي لكن ليس هناك قرار سياسي للبدء في الإنتاج. إذا وضعنا تصريح خرازي في سياق التطورات السريعة التي طرأت على البرنامج النووي الإيراني في الأشهر الأخيرة من بناء مواقع حصينة وتكثيف التشغيل في منشآت نطنز و فوردو وإدخال أجهزة طرد مركزي جديدة قادرة على التخصيب إلى نسبة أعلى وبسرعة أكبر فإننا نستنتج أن البرنامج النووي الإيراني قد دخل فعلا إلى مرحلته النهائية استعدادا لإنتاج سلاح نووي وإعلان إيران دولة نووية. لكن ذلك يستلزم إيجاد طريق لتجاوز فتوى الإمام الخميني بتحريم السلاح النووي. وأظن أن دافع المحافظة على النفس وهو أول مقاصد الشريعة في الإسلام قد يكون مخرجا يبرر إنتاج سلاح يكون هو الملاذ الأخير للمحافظة على الجمهورية الإسلامية والدفاع عنها خصوصا بعد زيارة بايدن التي ارتفعت فيها أصوات دقات طبول الحرب ضد إيران. تصريح كمال خرازي الذي جاء مقصودا بعد زيارة بايدن لن يمر سهلا في تل أبيب ويضع واشنطن أمام خيارات محدودة جدا في المفاوضات النووية مع إيران. ويضع الرئيس الأمريكي شخصيا في وضع شديد الضعف أمام ناخبيه بعد زيارة فاشلة للشرق الأوسط سلم فيها لإسرائيل بما تريد وكرس زيارته لخدمة أهدافها. وسلّم فيها للسعودية بما تريد بعد أن كان قد تعهد بتحويلها إلى دولة منبوذة وعاد إلى ناخبيه صفر اليدين من دون مكسب واحد يزيد شعبيته المنهارة. *هزيمة بدلا من تعزيز النفوذ الهزيمة العسكرية لأي دولة يمكن تعويضها بسهولة أكبر وفي وقت أسرع من الهزيمة السياسية. وقد عاد جوزيف بايدن من الشرق الأوسط إلى مقر الحكم في البيت الأبيض وهو يجر أذيال هزيمة دبلوماسية مذلة. لقد كان الغرض من الزيارة هو إعادة الاعتبار إلى النفوذ الأمريكي الإقليمي بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من أفغانستان وإنهاء المهام القتالية لقواتها في العراق وتقليص وجودها العسكري في سوريا باستثناء القوة الموجودة لحماية حقول النفط في شمال شرق البلاد التي تم تعزيزها أخيرا. لكن الحاجة إلى إعادة الاعتبار اصطدمت بأربع عُقَد سياسية رئيسية لم يتمكن بايدن خلال زيارته من حل أي منها أو حتى شق طريقه بخطوات قليلة إلى الحل. فشل بايدن في تحقيق إجماع على موقف واحد من المفاوضات النووية مع إيران وفشل في تحقيق أي اقتراب من حل الدولتين أو إعلان أي إجراءات لبناء الثقة مع الفلسطينيين مثل فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية وفشل في تمرير مشروع التحالف العسكري بقيادة الولاياتالمتحدة في قمة ال 6+3 وفشل في الحصول على تعهد من السعودية ودول الخليج النفطية بزيادة إمداداتها لتعويض النقص الناتج عن العقوبات المفروضة على روسيا بل إن الزيارة أبرزت مرة أخرى عمق الخلاف بين واشنطن وتل أبيب حول مسألة الخيار العسكري ضد إيران أو حتى التهديد به وكشفت عن عمق الخلاف بين واشنطن والدول العربية حول التحالف العسكري والموقف من الحرب الأوكرانية وإصرار الدول الخليجية على استقلال سياستها النفطية والموقف الذي يروج له بايدن بمنع روسيا والصين من ملء الفراغ الذي تخلفه وراءها الولاياتالمتحدة. هذا الفشل يكشف أبعاد هزيمة دبلوماسية بايدن في الشرق الأوسط وإن كان لا يعني نهاية الدور الأمريكي في المنطقة فستبقى الولاياتالمتحدة مجرد قوة رئيسية دورها يتراجع بجانب قوى أخرى من داخل الإقليم ومن خارجه تشارك في لعبة السباق على النفوذ الإقليمي. تداعيات فشل الزيارة تدق ناقوس الخطر تحذيرا للديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس فقد عاد بايدن ليواجه الناخب الأمريكي وهو خالي الوفاض صفر اليدين بعد أن فشل في الحصول على أي شيء يقدمه للناخب على أنه إنجاز صنعه خلال رحلته الشرق أوسطية يسهم في تحسين شروط الحياة للناخب والقدرات التنافسية للبلاد. وقد عاد بايدن إلى واشنطن تحيطه اتهامات بالتخلي عن القيم التي زعم التشبث بها وتطارده صور لقائه مع ولي العهد السعودي والجدل الدائر حول ما دار بينهما بشأن مقتل الصحافي جمال خاشقجي الذي كان يكتب لصحيفة واشنطن بوست . وبناء عليه فإن فرص الجمهوريين في زيادة عدد مقاعدهم في مجلس الشيوخ ليكونوا الأغلبية فيه أصبحت قابلة للتحقق أكثر مما كانت عليه قبل الزيارة كما أن فرصهم في زيادة مقاعدهم في مجلس النواب تتعاظم أيضا. وإذا جاءت نتائج انتخابات نوفمبر المقبل في هذا الاتجاه فإن بايدن سيتحول سياسيا إلى بطة عرجاء داخل البيت الأبيض يحاصره الجمهوريون من كل جانب ليفسدوا عليه ما تبقى من فترة رئاسته وتحويل حلمه في الترشح لفترة ثانية إلى مجرد سراب. فشل زيارة بايدن للشرق الأوسط أضفت على الانسحاب العسكري للولايات المتحدة من المنطقة ثوب الهزيمة السياسية. *خيارات الولاياتالمتحدة منذ قيام دولة إسرائيل كانت توصف بأنها ذيل الولاياتالمتحدة في المنطقة لكن يبدو أن المعادلة تتغير الآن وأن الولاياتالمتحدة ستصبح هي ذيل إسرائيل في المنطقة! خيارات واشنطن في الشرق الأوسط بعد زيارة بايدن تبدو محدودة وأقل فاعلية. فهي من الناحية العسكرية أصبحت أكثر اعتمادا على تل أبيب حيث تحولت إسرائيل بالفعل إلى المركز الاستراتيجي للقيادة العسكرية الوسطى والدولة الأكثر قدرة على التنسيق مع شركائها من الإمارات إلى المغرب بعيدا عن أخطاء السياسة الأمريكية. ومن ثم فإن الخيار الأمريكي الأول القابل للتحقيق هو الالتزام بتأييد إسرائيل ومساعدتها في تحقيق هدف الاندماج في المنطقة. وقد كان بايدن حريصا على ذلك بالفعل حيث أكد في التغريدة التي أطلقها بعد عودته إلى واشنطن أن الولاياتالمتحدة سوف تستمر في مساندة اندماج إسرائيل في المنطقة ومساندة الجهود لمفاوضات من أجل سلام دائم بين (دولة إسرائيل) و(الفلسطينيين) . ويجب أن نقرأ بعناية الكلمات الأخيرة من التغريدة حيث جاء النص خاليا من خيار حل الدولتين. وقد وصف الإسرائيليون تصريحات بايدن بخصوص القضية الفلسطينية على أنها شهادة وفاة حل الدولتين . ولا أظن أن مصطلح حل الدولتين سيتكرر كثيرا في الخطاب الدبلوماسي الأمريكي إلا من باب الاسترضاء إذا لزم الأمر. *إيران نووية أما خيارات الولاياتالمتحدة تجاه عقدة المفاوضات الإيرانية فقد أصبحت أصعب بعد تصريح خرازي وبعد رفض الدول العربية الموافقة على الدخول في تحالف عسكري يكون هدفه المعلن هو العداء لإيران. وقد أدى تعالي صيحات الحرب ضد إيران خلال زيارة بايدن لإسرائيل إلى وضع القادة العرب المشاركين في قمة جدة في وضع شديد الحرج ألزمهم بضرورة إعلان موقفهم بعدم الموافقة على الدخول في حلف عسكري ضد إيران. ومع أن بايدن قال في حوار تلفزيوني في إسرائيل إن الخيار العسكري قد يكون الملاذ الأخير في حال تعثر المفاوضات فإنه من المستبعد أن تلجأ واشنطن إلى هذا الخيار وذلك من واقع خبرة التعامل مع طهران في الاحتكاكات ذات الطابع العسكري. وهو ما سيترك إسرائيل معزولة وحدها في تفضيل الخيار العسكري خصوصا أن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي غارقان في حرب أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية. واذا كان دونالد ترامب المتهور قد تراجع عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران فيجوان 2019 بعد أن أسقطت الدفاعات الجوية الإيرانية واحدة من أحدث طائرات التجسس الأمريكية وأكثرها تعقيدا فإن بايدن لن يكون أكثر تهورا من ترامب خصوصا أن الفترة منذ حادث إسقاط الطائرة حتى الآن شهدت تقدما سريعا في بناء وتطوير القوة العسكرية الإيرانية. ما تستطيع واشنطن تقديمه لإسرائيل في هذا السياق هو التنسيق من خلال القيادة الوسطى. ومن الملاحظ أن الجنرال مايكل كوريللا قائد القيادة الوسطي زار إسرائيل والتقى وزير الدفاع ورئيس الأركان بعد يومين من انتهاء زيارة بايدن وكانت تلك هي الزيارة الثانية له منذ تولى منصبه في شهر إبريل الماضي. وتتزايد في الوقت الحالي أهمية ذلك التنسيق على ضوء انشغال القيادات السياسية بالانتخابات المقبلة في شهر نوفمبر في كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة. ولا شك في أن تصريح خرازي يفرض على الولاياتالمتحدة ضرورة إعادة تقييم موقفها من المفاوضات ودراسة فكرة التخلي عن الالتزام بسياسة الضغوط القصوى التي وضعها ترامب بدلا من فرض عقوبات جديدة على إيران والعمل على فتح المسار الدبلوماسي بدلا من خنقه بالتصعيد.