العقليّة العربيّة في الغالب تناهض النّقد، فليس في قاموسها إلاّ الثّناء أو الهجاء، وهذا مستمدّ من الثّقافة العربيّة القديمة؛ فقصائد الثّناء والفخر وحتى الهجاء طافحة بها كتب الأدب العربيّ· ومن يحاول تجاوز ذلك يُصنّف على أنّه خارج عن الأمّة، شاقّ لعصا الطّاعة، وبالتّالي تسهل تصفيتُه أو الزجّ به وراء القضبان· جاء الإسلام والعرب غارقة في التّفاخر بالأنساب والتّنابز بالألقاب، تخوض حروبًا طاحنة تمتدّ عشرات السّنين، لأنّ فَرسًا سبق فرسًا آخر! هكذا كانوا في وسط الجزيرة العربيّة، أمّا في أطرافها، فكانوا مجرّد تابعين لفارس والرّوم، ولم يكن لهم أيّ طموح في أن يكون لهم دورٌ فاعل في السّاحة العالميّة ورضوا بالتّبعيّة، ولم تأخذهم الأنفة المضريّة إلاّ على بني جلدتهم! يبدو أنّ الهياط العربيّ في ذلك الزّمن أعمى عيونهم عن رؤية واقعهم الذي كان شديد الحاجة إلى إصلاح في جميع الجوانب· استمرّ الحال على ما هو عليه إلى أن جاء الإسلام بنوره، فأنار تلك العقول المظلمة، ونقد الممارسات السّيئة التي كان يمارسها العرب من التذلّل للأصنام، ووأد البنات وحرمان النّساء من الميراث، ومن التبعيّة للحضارات الأخرى، إلى إقامة حضارة مستقلّة ومؤثّرة في بقيّة الحضارات· لم يكن هذا التّغيير الهائل والتحوّل الفكريّ لدى العرب يحصل لولا الدّعوة النّبويّة التي اتّجهت إلى إصلاح الدّاخل أولاً قبل أن تتّجه إلى العالميّة، فبدأت بنقد الخرافة والسّلوك السيّئ والسّلبيّة داخل المجتمع المكيّ· وكان من دلائل صدق تلك الدّعوة أنّها لا تستثني أحدًا من النّقد مهما كان فضلُه، ومهما علا شأنه، حتى صاحب الدّعوة نفسه، وحتى لا يُظنّ أيضًا أنّ القضيّة قضيّة زهْو شخصيّ أو ترف فكريّ، فكان للنّبي صلّى الله عليه وسلم نصيبٌ من هذا العتاب الرّبانيّ قال تعالى: (عبس وتولّى أن جاءه الأعمى)، وقال تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)، وكان عليه السلام يقبل النّقد إذا تصرّف بصفته البشريّة، ففي غزوة بدر سأله الحباب بن المنذر عن سبب اختياره للمكان الذي نزل فيه، فقال: يا رسول الله، أمنزل أنزلك الله إيّاه أم هي الحرب والرّأي و المكيدة؟ فقال عليه السّلام: بل هي الحرب والمكيدة، فقال الحباب: ليس هذا بمنزل، فانتقل عليه السّلام بأصحابه للمكان الذي أشار عليه به الحباب· وهكذا استمرّ النّقدُ البنّاء في عهد الخلفاء الرّاشدين، إلى أن جاء المُلك العضوض والقبضة الأمنيّة في عهد بني أميّة، فليس أمام النّاس إلاّ الثّناء أو الصّمت، وفي عهد عبد الملك بن مروان نهى عن ذكر سيرة الخلفاء العادلين كعمر بن الخطاب، وكان يعلّل ذلك بزعه أنّها (مرارة للأمراء ومفسدة للرّعيّة) وفي أحد خطبه قال: (من قال لي اتّق الله ضربْتُ عنقَه)! في تلك الأجواء المرعبة نشأ فقهٌ سياسي يتماهى مع الرّغبة السّياسيّة، يحبّذ ملاطفة الخلفاء، ويرفض النّصح العلنيّ، ويجوِّز بيعة المتغلّب، والشّورى في نظره معلمة، وليست ملزمة، ولوليّ الأمر أن يقرّ ما يراه مصلحة هو، فالشّورى ليست ملزمة، وعلى الرّعيّة السّمع والطّاعة، وإن جلد الظهر وأخذ المال! كلّ هذه التّبريرات تحت قاعدة شرعيّة صحيحة وهي - درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة _ لكنّهم فهموها بالمقلوب! فكيف يكون إنكار المنكرات أيًّا كان نوعُها مفسدة؟ والسّكوت على الفساد والفاسدين مصلحة؟! هذا الفقه الأعوج أنتج للأمّة حكّامًا طغاة استبدّوا بالرّأي، واستأثروا بالمال العام، وأقصوا رغبة الشّعوب وصوتها، وأصبح مصير ملايين البشر بيدي رجل واحد، يختار لها من تحبّه ومن تكرهه، تصفّق لمن وتشتم من! ومن أراد أن ينصح فعليه أن يتخفّى كالسّارق حتى لا يراه أحد ولا يشعر به أحد، بعيدًا عن أعين النّاس وعدسات الكاميرات، ثم يهمس في أذن هذا الحاكم أو ذاك بالمنكر الذي رأى ثم يصمت، ولا يخبر أحدًا بذلك، وبهذا أدّى الواجب الذي عليه، ونصح لأئمّة المسلمين وعامّتهم! بعد أن أشتدّ النّقد لهذه المدرسة تحصّن هؤلاء الفقهاء من النّقد بمقولة ابن عساكر: (إنّ لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة··) ويمكن أن نسأل هؤلاء الفضلاء: أيّهما أشدّ سُمّيّة حقوق الأمّة أم لحوم العلماء؟! * كان من دلائل صدق تلك الدّعوة أنّها لا تستثني أحدًا من النّقد مهما كان فضلُه، ومهما علا شأنه، حتى صاحب الدّعوة نفسه، وحتى لا يُظنّ أيضًا أنّ القضيّة قضيّة زهْو شخصيّ أو ترف فكريّ، فكان للنّبي صلّى الله عليه وسلم نصيبٌ من هذا العتاب الرّبانيّ قال تعالى: (عبس وتولّى أن جاءه الأعمى)، وقال تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)، وكان عليه السلام يقبل النّقد إذا تصرّف بصفته البشريّة. * في تلك الأجواء المرعبة نشأ فقهٌ سياسي يتماهى مع الرّغبة السّياسيّة، يحبّذ ملاطفة الخلفاء، ويرفض النّصح العلنيّ، ويجوِّز بيعة المتغلّب، والشّورى في نظره معلمة، وليست ملزمة، ولوليّ الأمر أن يقرّ ما يراه مصلحة هو، فالشّورى ليست ملزمة، وعلى الرّعيّة السّمع والطّاعة، وإن جلد الظهر وأخذ المال!