سن الله سبحانه وتعالى في خلقه سننا نظمت أمور الناس في جميع طرائق حياتهم، ومن هذه السنن أنه جعلهم متفاوتين من حيث القوة الجسدية والعقلية، وكان من أثر ذلك أن جعل منهم الغني والفقير، ولكنه تعالى لم يترك الفقير هملا تزداد فاقته حتى يقضي عليه فقره، بل حرص الإسلام على حل مشكلة الفقر بطرق شتى، فحث على العمل للقادرين وبث في نفوسهم أنه تعالى إنما أنعم عليهم بنعمة القوة ليكفلوا أنفسهم ومن ينفقون عليهم ثم إخوانهم من غير القادرين فأوجب سبحانه للفقراء حق الرعاية من خلال نظام اقتصادي وأخلاقي واجتماعي متكامل أقامه الإسلام وسار عليه المسلمون منذ البعثة النبوية الشريفة فأثبت تميزه وكفايته بما لا يدع مجالا للشك في أنه من لدن حكيم عليم. ويبدأ هذا النظام بالأخلاق، فلقد وضع الإسلام الأسس التي يقوم عليها المجتمع المبني على الأخلاق السوية والتقارب والتحاب والتعاون على الخير وفعل المعروف وما يزرعه ذلك في كل قوي فيرحم الضعيف، وفي كل غني فيعطف على الفقير، وفي كل قادر فيغيث ذا الحاجة. أما النظام الاقتصادي فهو بناء قائم على قواعد راسخة ففيه من الواجبات على الأغنياء الزكاة والنفقة، وفيه مما ندب إليه الوقف والصدقة فضلا عن الهبة والهدية وسائر التبرعات، ودعم التشريع الإسلامي هذا النظام بأن جعل أوجب العبادات على المسلم -بعد الصلاة- إخراج حق أخيه غير القادر، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد عى فقرائهم. البخاري 2/505. وربط الله تعالى الإحسان إلى الفقراء بالكثير من العبادات، وكان من طرائق هذا الإحسان -بل لعله أعظم طريق- إطعام الطعام سواء كان صدقة للفقير أو إطعاما للأسير، قال تعالى: {الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان:8-9]، وذلك باعتبار الطعام من الحقوق الإنسانية الضرورية التي يتكفل بها المجتمع بأسره. ومن هنا ربط الإسلام الإطعام بأعياد المسلمين، وذلك في عيدي الفطر والأضحى ففي عيد الفطر فرض الله على المسلمين أن يدفعوا زكاة الفطر للفقراء والمساكين طعمة لهم، وفي أيام عيد الأضحى شرع الله للحجاج أن ينحروا هديهم في فريضة الحج سواء على وجه الوجوب للمتمتع والقارن أو على الاستحباب للمفرد، وقد خص الله تعالى البائس الفقير في الإطعام من الهدي فقال: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} [الحج:27]، ثم إنه سبحانه شرع لمن لم يحج أضحية تشبها بالحجاج وشكرا لله تعالى على توفيقه للعمل في هذه الأيام الفاضلة. وشرع التشبه بالحجاج أيضا في إطعام الفقراء من الأضحية، فالأضحية لا تطلب لذاتها فحسب، ولكن للتوسعة أيضا على الفقير وابتغاء التقوى ومحبة الخير لكل الناس، ويؤكد ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بقي منها؟) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: (بقي كلها غير كتفها) الترمذي4/644. وبذلك أنعم الله تعالى على فقراء المسلمين في أقطار الأرض برزق حسن في أيام فرح، وعلى أغنيائهم بثواب من عنده وفضل. قال رسول الله عليه وسلم: (ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم أنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا) سنن الترمذي 4/83. إن توزيع الأضحية على الفقير يحمل في جوهره تكافلا تفيد منه الجماعة ماديا وخلقيا، وذلك لأن الاهتمام بذوي الحاجة والبائسين في العيد خاصة ومشاركتهم فرحة العيد ومناسبته السعيدة يساعد على حب الفقراء للأغنياء وثقتهم بهم والتفافهم حولهم، وبذلك تزيد الأضحية من روابط التكافل الاجتماعي في المجتمع وتزيد من أواصر التآلف بين أفراده. ولا يقتصر الأمر على أيام العيد فحسب، بل إن اتخاذ الإطعام سنة في بقية العام والسعي في نشر هذه السنة وتنظيمها لإيصال الطعام إلى مستحقيه، ودعم القائمين على هذا العمل من المخلصين المحيطين علما بالواقع المعيش والمناهج العلمية الحديثة، وتوسيع مفهوم الطعام ليشمل الدواء أيضا باعتباره حاجة مهمة لكل إنسان -كل ذلك مطلوب من كل قادر أنعم الله عليه بنعمة فأراد إيصالها إلى مستحقيها، وكل عام ومصرنا الحبيبة والعرب والمسلمين بخير وأحسن حال.