عبد الباري عطوان بدأت الهجمة الدبلوماسية الإيرانية التي يقودها الرئيس حسن روحاني تعطي ثمارها في كسر العزلة السياسية، تمهيدا لكسر الحصار الاقتصادي الخانق، وبما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتراف بدور إيران كقوة إقليمية عظمى في منطقة الشرق الأوسط. فالرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ربما التقى الرئيس الإيراني مساء أمس على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقال هولاند في تصريحات صحافية إنه سيطلب من نظيره الإيراني المساعدة في إيجاد حل سياسي في سوريا، وهو طلب لم يكن واردا قبل شهر فقط!. أما جوش ايرنست نائب المتحدث باسم البيت الأبيض للصحافيين المرافقين للرئيس أوباما على متن طائرته الخاصة التي كانت في طريقها إلى نيويورك، فقد اعترف بوجود اتصالات بين الإدارة الأمريكية والسلطات الإيرانية ستستمر في الأسابيع والشهور المقبلة، وتقوم على أساس الاحترام المتبادل. ولمح المتحدث الأمريكي إلى أن المقابلة بين الرئيسين الإيراني والأمريكي في نيويورك محتملة. أين الزعماء العرب ووزراء خارجيتهم من هذه التطورات المفاجئة، فهل كانوا على علم بهذه الاتصالات الأمريكيةالإيرانية، لا أعتقد، فهم مثل الزوج المخدوع آخر من يعلم كعادتهم دائما. ثم ماذا سيكون موقفهم، أو بالأحرى ردة فعلهم، عندما تزدحم شاشات التلفزة العالمية في الأيام المقبلة بصورة العناق والمصافحة بين الرئيس باراك أوباما ونظيره حسن روحاني والابتسامة العريضة التي سترسم على وجهي الرجلين سعادة باللقاء في دهاليز الأممالمتحدة؟ قطعا ستكون علامات القلق وخيبة الأمل والرعب مما هو قادم مرسومه على وجوه هؤلاء كرد فعل على هذا التطور الخطير، خاصة أولئك الذين صوروا إيران كشيطان أكبر، وقرعوا طبول الحرب ضدها، وحشدوا الأساطيل الأمريكية في مياه الخليج استعدادا لضربها، واستثمروا المليارات في هذا المضمار. وهذا الانتصار الدبلوماسي الإيراني هو عنوان هزيمة ثقيلة أخرى للأنظمة العربية، ودليل إضافي على فشل سياساتها وقصر نظر حكوماتها، وعجزها بالتالي عن قراءة خريطة الأحداث قراءة صحيحة وعلمية، واعتمادها على مستشارين، ومراكز بحث تضم الجهلة والمطبلين ويدعي الكفاءة. الحكومات العربية، ولا أقول الشعوب، أصبحت أضحوكة، ومثالا للسذاجة، فقد صدقت الأكاذيب الأمريكية الإسرائيلية دائما ورصدت أكثر من مائة وثلاثين مليار دولار لشراء طائرات وصواريخ وأنظمة دفاعية أمريكية حديثة بتعليمات أمريكية، وها هي الإدارة الأمريكية، وبعد أن ضمنت العقود التسليحية هذه، ووظفتها في إنقاذ اقتصادها المنهار، وحل مشكلة البطالة في أوساط شبابها، تفتح قنوات حوار مكثف مع إيران التي كانت تهدد بضربها لتقاسم مناطق النفوذ في المنطقة، والتسليم بالحصة الأكبر لإيران في هذا الإطار، ومستسلمة لمعظم شروطها. العرب تلقوا صفعتين كبريين مؤخرا من أمريكا، الأولى عندما جرى تهميشهم واستبعادهم وحكومات الخليج بالذات، من الجهود المكثفة لحل أزمة الأسلحة الكيماوية السورية، والاتفاق الذي تمخض عنها وأدى إلى تراجع أمريكا عن عدوانها العسكري على سوريا، مقابل الكشف عن أسلحتها الكيماوية. والصفعة الثانية والأكبر جاءت من خلال هذا الغزل الأمريكي الإيراني المتصاعد، واللقاءات المتعددة بين وزير الخارجية ونظرائه الأوروبيين، وأخيرا توسل هؤلاء لإيران المساعدة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية. الحكومات الخليجية أنفقت أكثر من عشرة مليارات دولار حتى الآن لتمويل الحرب في سوريا على أمل إطاحة النظام فيها بعد أن بشرهم أوباما أن أيامه باتت معدودة، وها هي تواجه بالتهميش التام، ولا تشرك في أي جهود دبلوماسية للحل حتى ولو من قبيل المجاملة ورفع العتب، هل هناك هوان أكثر من هذا الهوان؟ الرهان على تحشيد الأساطيل والغواصات الأمريكية والإسرائيلية لضرب إيران وإنهاء أو تعطيل طموحاتها النووية، ولو في المستقبل المنظور ثبت فشله، وأي اتفاق أمريكي إيراني سيكون حتما على حساب دول الخليج، وتلك التي تغولت في التحريض الطائفي، معتقدة أن الضربة الأمريكية الإسرائيلية هذه باتت على الأبواب. نحن كعرب أصبحنا أدوات لتنفيذ المهام الأمريكية القذرة في منطقة الشرق الأوسط، ولهذا من الصعب أن نتوقع من الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة التعاطي معنا بقدر من الاحترام على الطريقة التي تتعامل فيها مع الإيرانيين الذين حولناهم إلى أعداء دون أي تبصر بخطورة النتائج. الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله، كان في قمة الحكمة عندما رفض طلبا أمريكيا بالتحرش بإيران ودعم خطة أمريكية لضربها في أوائل التسعينات تحت عنوان تحرير الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران، وقال لوزير الخارجية الأمريكية في حينها، وماذا لو انهزمتم، وسحبتم قواتكم من المنطقة على غرار ما فعلتم في الصومال، وتركتمونا لوحدنا في وجه إيران؟ السؤال نفسه ما زال صالحا الآن، ويمكن توجيهه إلى بعض حكوماتنا التي وضعت كل بيضها في سلة الخداع الأمريكي، وأنفقت مئات المليارات على أسلحة قد لا تستخدمها على الإطلاق. وربما نعيد صياغته قليلا ونقول ماذا أنتم فاعلون الآن وقد تغولتم في التحريض الطائفي واستعداء الإيرانيين وحلفائهم؟ الدهاء الإيراني بدأ يكسب الحرب الدبلوماسية في أوروبا وأمريكا، ولم يخسر الحرب العسكرية في سوريا حتى الآن، ولم يتراجع مطلقا عن طموحاته النووية، وإذا تنازل عن بعض عمليات التخصيب العالية الدرجة (20 بالمئة) لتحسين العلاقة مع الغرب، فإن هذا التنازل مؤقت، لأن الخبرة موجودة في عقول العلماء ويمكن توظيفها مجددا في الوقت المناسب. اختيار روحاني المعتدل رئيسا للجمهورية في الجولة الأولى في انتخابات محسوبة بعناية كان عنوانا آخر لهذا الدهاء، وفي إطار خطة إستراتيجية بدأت تعطي ثمارها التي نرى بعضها حاليا في المنطقة والخريطة السياسية العالمية وما هو قادم ربما يكون مفاجئا في صدمته لنا كعرب. ما لا يعرفه أن أمريكا لم تكن مطلقا صديقة لنا وإن ادعت ذلك، وإنما هي صديقة لمصالحها وغير مستعدة للتضحية بجندي أمريكي واحد من أجلنا وتعتبرنا نموذجا مثاليا للغباء في أبشع صورة وأشكاله، تنهب أموالنا، وتدعم أعداءنا، وتبارك احتلال مقدساتنا، وتستخدمنا كأدوات لمحاربة بعضنا البعض، وتحتل أراضينا وتفكك جيوشنا، ومع ذلك لا نتعلم ولا نتعظ ونلدغ من الجحر الأمريكي نفسه مرات ومرات. فهنيئا للأمريكان ولا عزاء للأغبياء.