تمثل (الوحدة) من المفاهيم العزيزة على الإنسان التي تنزل على صدره منزل الماء البارد في يوم حرور، فما من إنسان إلا وينشدها ويخطب ودها ويرجو رضاها، لما لها من القدرة على تصفية النفوس وتنقيتها من الإحن والضغائن، وتوجيه الإنسان نحو الخير والتقدم والرقي في الحياة اليومية الخاصة والعامة، وما من عاقل على وجه البسيطة يأنفها أو يرفضها، بل يسعى العقلاء إلى ترجمتها على أرض الواقع من خلال الممارسات والأفعال تسبقها الإرادات وما بينهما الأقوال والألسن. والرغبة الشديدة نحو الوحدة، لما فيها من ايجابيات في مسيرة الإنسان، هي الوجه الآخر من عملة الحياة اليومية حيث يكون الاختلاف، أي أنّ عملة الحياة نُقشت بالوحدة والاختلاف، كالليل والنهار، والفرح والترح، فالثنائية هي الأصل في الحياة اليومية، فالمرء لا يعرف طعم الفرح إلا بعد أن يتذوق الأسى، ولا يتذوق طعم النصر إلا أن يتذوق الهزيمة، وبالليل يُعرف النهار وبالثاني يُعرف الأول، لذا فحقيقة الوحدة لا يمكن معرفتها وتذوق معانيها الراقية إلا بمعرفة الاختلاف، وهذه المعادلة القائمة هي بحد ذاتها دليل وجود الإختلاف وإن كان مؤدى رسالات السماء وقيم الأرض تحقيق الوحدة، فالدعوة الى الشيء دليل وجود نقيضه، ولكن ليس بالضرورة أن يكون سلباً كله، فالدعوة الى ما هو محبوب ليس بالقطع أن يكون العكس مكروهاً أو مبغوضا، وإنما هو من باب الترشيد، وتنظيم ما هو فطري في الحياة اليومية، فالإختلاف في ظاهره مرفوض كله، ولكنه في واقع الحال أمر حياتي تفرضه طبيعة العلاقات القائمة بين الإنسان ومحيطه القريب والبعيد، بل يعد ضرورة فطرية تقود الإنسان الى تنظيم العلاقات وترشيدها بما فيه خيره، ولا يمكن إدراك كنه الحياة إلا بالاختلاف المفضي إلى التكامل والتفاضل لا الخلاف والتقاتل. والقبول بفطرية الاختلاف ليس دعوة إلى تعميقها فهذا من الجهل، بل إن علة بعث الأنبياء منذ أبينا آدم عليه السلام وإلى خاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما بينهما نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل، إنما هي لبيان ما اختلف عليه الناس وقيادتهم إلى سواء السبل لمنع وقوع الخلاف أو رفعه إذا حصل، فلا يمكن قسر الناس على نمط واحد من الحياة، وإلا ما عادت دنياً تُعاش، وصارت رتيبة مملّة وانتحر التفاضل على اعتاب الوحدة البشرية القسرية، ولم يبق للثواب والعقاب من جدوى، في حين أنَّ الإختلاف في صفوف البشر واحد من عوامل ازدهار الأرض وإعمارها، وما كان مؤداه ايجابيا كان مبدؤه خيراً، ولذلك فلا مندوحة من الإقرار بأنه خيرٌ للبشر على طريق التدافع لبناء الحياة، وهذه الحقيقة يرسخها القرآن في أذهان البشر في سورة هود: 118-119: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربك ولذلك خلقهم). زحمة الحياة ومن الطبيعي وفي زحمة الحياة اليومية أن يقع الاختلاف والخلاف بين الإنسان وصاحبه في المسائل المشتركة أو ذات العلاقة من قريب وبعيد، وحتى لا ينتهي الأمر إلى التباعد، وضع الإسلام مجموعة من التشريعات والأحكام التي لها القدرة على تنظيم العلاقة بين المختلفين بما فيه صلاحهما كأفراد أو مجموع، وهذا ما يتناوله الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الاختلاف" الصادر حديثا عن دار العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة ضمَّ 75 مسألة، قدّم له وعلق عليه في 22 مسألة، القاضي آية الله الشيخ حسن رضا الغديري. الشيخ الغديري في تعليقه على (شريعة الاختلاف) يرى: (إن الخلاف والاختلاف ينشأ من الطبع البشري العام) أي أن العملية فطرية ملازمة للإنسان منذ نشأة البشرية، كما أن: (الخلاف والاختلاف ليس له حد من حيث الزمان والمكان ولا من حيث الموضوع، فقد يقع تارة في المعتقد وأخرى في الممتلك وثالثة في المحتسب، ورابعة في الحقوق، وخامسة في الفرائض والمسؤوليات، وهلم جرّا، وكذا الحال قد يقع بين شخصين، وقد يقع بين أشخاص، وقد يقع بين الأمة الواحدة، وقد يقع بين الأمم، وقد يكون محط الخلاف والإختلاف أمراً ايجابيا وقد يكون أمراً سلبياً)، ولا ينحصر الاختلاف في جهة دون أخرى، فقد: (يكون بين الأقرباء وقد يكون بين الأجانب، وقد يكون بين الأقران وقد يكون بين الأشراف والأقليات)، ومع تعدد الجهات وتنوعها وتمايزها: (ففي جميع الأحوال لم يترك الشارع الحكيم والكريم ذلك إلاّ وقد بيّن حكمه في الكتاب أو السنّة الشريفة كلياً أو جزئياً)، وحتى يرتفع الإختلاف ولا يصار الخلاف الى تفاخر وتناحر: (فيجب التعرف على ما حكم به الشرع لرفع الخلاف أو دفعه وحلّ الإختلاف وفصله). ومن اللازمة الطبيعة أن الذي خلق البشر وجعلهم مختلفين، بعث إليهم من يرشدهم وأنزل معهم الألواح والكتب فيها صلاحهم، وكانت الحكومة ضرورة، وكما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (جاء الشرع لحل الخلاف أساساً وذلك حينما وضع القوانين والأحكام لكي يعرف كل واحد حدوده وموازينه حتى لا يتجاوز ولا يحرم صاحب الحق من حقه، وهذه هي فلسفة وضع الأنظمة والقوانين وإقامة الدولة لتكون حارسة على مصالح الشعوب والمحافظة على حقوق الناس بل المراقبة والسهر على تطبيع القوانين لأجل ذلك)، وتنظيم أمر الإختلافات ضرورة حتمية في النظام الديني والنظام المدني كما يُشير إليها الفقيه الكرباسي، حيث: (تُعد الأديان كلها هي مصدر التشريع والتقنين، وأما النظام المدني فهو منبعث من النظام الإلهي، فالشعوب بل النخبة منها أخذت الأسس من الرسالات السماوية وأخذت تكوّن لنفسها مفاهيم توافق أمزجتها ومحيطها لتجعل قوانين تطبقها على شعوبها، وبما أنّ الرسالات السابقة هي متقدمة على القوانين الوضعية، فإنها بالتأكيد أُخذت من رسالات السماء). الخلاف والعلاقات الست والفقيه الكرباسي وهو يؤكد على مسألة الخلاف والاختلاف، يشير إلى العلاقات الست التي تحكم الإنسان بدءاً من علاقته بربه وانتهاءً بالعلاقة مع البيئة مروراً بعلاقته مع نفسه والآخر فرداً والآخر مجتمعاً والآخر دولة، لما لتنظيم العلاقات الست من مدخلية كبرى في سلامة الحياة الدنيا، وقد أثبتها الفقيه الكرباسي في البيتين التاليين من بحر المقبول التام، وهو من البحور التي استحدثها كما جاء في كتابه (هندسة العروض من جديد) الصادر عام 2011م: ست علاقات ُالخلائق في الحياة كما بدا *** بالنفس وبالرحمان والبشر الذين لهم غدا فردٌ وجمعٌ ثم يعقبه النظام لدولةٍ *** والبيئة الكبرى لها أثرُ على نمط الأدا ومهما سعى الإنسان في بناء حياة هادئة فإن طباع البشر مختلفة وهي مبعث نشوء الإختلافات، وخاصة في القوانين الوضعية، حيث يرجعها الفقيه الكرباسي إلى أحد الامور التالية: أولاً: النقص في سنّ القوانين. ثانيا: الكذب والتحايل على الواقع من قبل أحد الأطراف أو جميعهم لكسب مادي أو معنوي. ثالثا: السهو والغفلة. رابعا: تعارض القانون العام بالقانون الخاص، أي التعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع. وفي كل الأحوال لابد من حل الخلاف الواقع بين شخصين أو جهتين صغرت أو كبرت، لأن التكامل الإنساني يقتضي فك النزاعات وإحلال السلم المدني، وبتعبير الكرباسي: (لاشك باستحباب المصالحة في موارد الخلاف، شرط أنْ لا تخالف الأحكام الشرعية) فلا ينبغي حسب تقدير الكرباسي: (البقاء على ما يوجب الخلاف والاختلاف) بل: (لكلٍ من الطرفين الأجر والثواب إذا تصالحا، وكل مَن يسعى في حل الخلاف له أجر وثواب، وعليه فإن السعي إلى رفع الخلاف وتوقف الاختلاف مُستحب)، ومن مقتضيات المصالحة تجنب مراكز الشرطة والمحاكم والقضاء، فالصلح أفضل طرق الأمن المدني وأقصرها، بل وبتعبير الفقيه الغديري وهو يعلق على مسألة حل الخلافات دون الرجوع إلى القضاء من باب تعضيد لحمة المجتمع: (وقد يكون للقيام بأخذ الحق طرق أكثر تأثيراً من مراجعة القاضي، فالأولى اختيارها كالتوسل بأقربائه أو أقرانه أو كبرائه أو الإنذار بأسلوب معيّن، فعند التعذر به يراجع القضاء برعاية شروطه ووضعه العام في المجتمع)، والقرآن الكريم يشجع على الصلح ويدعو له كما ورد في آيات عدة، منها قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) الأنفال:1، وقوله تعالى (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات: 10، وقوله تعالى (فلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) النساء:128. ولأهمية الصلح في فك النزاعات، قال رسول الرحمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة) قالوا: بلى، قال (إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة). حضور العلم وحيث إن الإنسان مأمور العمل بالظواهر في مسائل الخلاف والاختلاف والتوسل بالأدوات المقننة شرعياً في حلها وهي: البيِّنة والإقرار والحِلْف والقُرعة، فهل يصح له الأخذ بوسائل العلم الحديثة للوصول إلى الحقيقة؟ هذا السؤال الذي بدأ يتداول في محافل العلم والعلماء وهم يتدارسون مسائل القضاء، يدلو الفقيه الكرباسي بدلوه، ويرى أن وسائل العلم الحديث تعد: (من وسائل المعرفة التي توصل الى الحقيقة أو الواقع) ويضرب في ذلك مثلاً على التحليل المختبري لإثبات حقيقة ما: (حيث يمكن-بواسطة التحليل- الكشف عن نسب الولد أو وجود الحمل أو معرفة القاتل أو السارق أو ما شابه ذلك، فهو وسيلة علمية يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار)، وبالطبع في إطار الشروط المقبولة منها (في التحاليل الطبية والكشوفات العلمية لابدّ من التثبت في صحتها أولاً، ومن كون المباشر عليها ممن يُطمأن إلى قوله ويوثق به ثانيا، ولو قيل باشتراط عدالته لم يكن تجافياً للحقيقة)، ومن ذلك أيضا: (السند والصور والأشرطة المسجلة لا تكون دليلاً شرعياً، إلاّ إذا رافقتها صحة الصدور من جهة لا يُحتمل فيها الكذب، ومؤيّدة من قبل ذوي الاختصاص). وهذه رؤية فقهية متطورة للاستفادة من وسائل العلم القطعية، في مسائل الخلاف والاختلاف وغيرها من التي يمكن للعلم القطعي أن يكون داعماً للحكم الشرعي وتفريعاته، فعلى سبيل المثال فإن إسقاط الجنين محرم ولكن إذا تعارض بقاؤه مع حياة الأم، فأمّه أولى بالحياة، وهو ما يحكم به الشرع الإسلامي والتشريعات الأخرى، وهنا يأتي دور الطبيب المختص لتشخيص الحالة ودرجة الخطورة، فإذا حكم بالإجهاض سلامة لحياة الأم يكون رأيه داعماً للحكم الشرعي بتقديم سلامة حياة الأم على جنينها، وهكذا الحال في المسائل المشابهة. في واقع الحال أن الفقيه الكرباسي يقدّم في (شريعة الاختلاف)، الذي يمثل حلقة في سلسلة من ألف عنوان صدر منها حتى اليوم العشرات، وكما يؤكد القاضي الفقيه حسن رضا الغديري: (مجموعة أحكام شرعية تحتوي على الأحكام الكلية للحل والفصل بما يجري بين الأفراد من الخلاف بأسلوب متميز عن غيره في بيان الأحكام وتحقيقها).