اجتَمَعت في هذه الأيامِ أمّهات الطاعة: الصلاةُ، الصيام، الحجّ، الصدقة. هذه الأيّامٌ لها شأنها: يوم عرفة ويومُ النحر، فيوم عرفة من أفضلِ أيام الله، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفَة...). فهذه أيّامٌ مباركة، فتقرَّب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال، وتحرَّ الدعاءَ في هذه الأوقات المباركةِ، فعسى أن توفَّقَ لقبولِ دعائك. وإن ليوم عرفة فضائل ومحاسن كثيرة منها: 1 كثرة عتق الله لعباده من النار، وأنه سبحانه يباهي بالحاج فيه ملائكته ويعمهم بالغفران: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟) رواه مسلم، قال النووي: (هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة). 2 أنه يوم الذي أكمل الله فيه للأمة دينها وأتم عليها نعمته: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً) المائدة: 2 قال عمرt: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة، يوم جمعة . 3 أنه يوم عيد. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عِيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) رواه أحمد والترمذي، قال ابن القيم رحمه الله: (يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كُره لمن بعرفه صومه). 4 أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) رواه أحمد والترمذي ، قال الترمذي: "والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر، فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل،.وقال النووي: "أي: عماده ومعظمه عرفة.. وقال المناوي (أي: معظمه أو ملاكه الوقوف بها، لفوت الحج بفوته ، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه... فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) يدل على أفضلية عرفة؛ لأن التقدير: معظم الحج وقوف عرفة. فالجواب: أن لا نقدر ذلك، بل نقدر أمرًا مجمعًا عليه: وهو إدراك الحج وقوف عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه). وقال السندي (والمقصود: أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة. وقال الشوكاني) قوله: (الحج عرفة) أي: الحج الصحيح حج من أدرك عرفة. الأعمال المستحبة في يوم عرفة: 1 الصيام: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: كيف تصوم؟. .. وذكر الحديث بطوله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عرفة،أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله،والسنة التي بعده..) رواه مسلم قال النووي: (صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) رواه مسلم. و معناه: ذنوب صائمه في السنتين. قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء، وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجات). قال ابن القيم رحمه الله: (فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيرًا كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة. وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: (إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة) رواه مسلم. قال بعض العلماء: فإذا كان دأبه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات. ويا لله العجب. فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه. فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير. وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه. ولم يقدره حق قدره. فأي شيء يكفر هذا؟! فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه. أويمن به، أو يطلب من العباد تعظيمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحسر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه. 2 الدعاء: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) رواه الترمذي. قال ابن عبد البر: (وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، ... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب). قال المباركفوري: "قوله: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) لأنه أجزل إثابة، وأعجل إجابة. فضل اليوم العاشر وهو يوم النحر: عن عبد الله بن قرط الثمالي قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر). رواه أحمد. قال ابن تيمية رحمه الله: (أفضل أيام العام هو يوم النحر، لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: ....)، وقال ابن القيم رحمه الله: (فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر). * واعلموا عباد الله أنه يشرع للجميع الإكثار من التكبير والذكر في أيام العشر وفي يوم العيد وأيام التشريق فهي أيام ذكر وشكر كما قال سبحانه: (وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ) الحج:27، 28، ولقوله سبحانه: (وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ) البقرة:203، وقد روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض العبارات منها ما ورد عن ابن مسعود أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ومنها ما ورد عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً.ويسن الجهر بها إعلاناً لذكر الله وشكره وإظهاراً لشعائره. وهو يوم العيد، فالفرح فيه فهو من محاسن هذا الدين وشرائعه، فعن أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية فقال: (قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم النحر ويوم الفطر). أحمد وأبو داود والنسائي. ويشرع للمسلم التجمل في العيد بلبس الحسن من الثياب والتطيب في غير إسراف ولا مخيلة ولا إسبال. فَضلُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ: وهي ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ تُشْرِقُ فِيهَا، أَيْ تُقَدَّدُ فِي الشَّمْسِ. وهي المقصودة ب: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: هِيَ الْوَارِدَةُ فِي قوله تعالى : (وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ) البقرة:203 وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ . الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: الْوَارِدَةُ فِي قوله تعالى: (وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ) الحج:27، 28، - أَيَّامُ النَّحْرِ: صلى الله عليه وسلم (كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ). ويكون فيها من الأعمال ما يلي: ذَبْحُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ) وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ : النَّحْرُ يَوْمُ الْأَضْحَى وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: التَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَشْرُوعٌ لقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ). حكم الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: مِنْ الْأَيَّامِ الَّتِي نَهَى عَنْ الصِّيَامِ فِيهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٌ لِلَّهِ). *إمام مسجد عرفات/ بن عكنون الجزائر