النهضة لأي أمة تأزمّت في داخلها وتابعيّتها للخارج وانعدمت استقلاليّتها وقدرتها على اتخاذ قراراتها من دون أي مؤثر خارجي - لا تتحقق إلا عبر مفتاحين يخلصانها من واقعها، يتمثّل الأول في الثقافة والقيم المشكّلتين لوعي المجتمع وتكوينه الفكري، واللتين ينصبّان في قالب أي سلوك يحاول أن ينهض بالمجتمع ويلتصقان به ويكيّفانه بحسب ذات الثقافة وذات القيم، ويتمّثل الثاني في مجموع السلوكيات الحضارية في شتى المجالات والتي إما أن تكون مُستلهمة من الحضارة الغالبة في واقع تلك الأمة، أو أن تكون مُبتدعة من تلقاء الأمة نفسها، عبر علمائها ومفكّريها لخلق حلولٍ لواقعهم. يمثّل الفريق التراثي -والذي يشمل بعض الإسلاميين وغيرهم مِمّن هم معظّمين للتراث العربي- جانب مَن يرى ألا نهضة للأمة العربية بدون تراثها وثقافتها وقِيمها، مع اختلافهم فيما بينهم حول المُفترض فعله حِيال السلوكيّات الحضارية والتي هي المفتاح الثاني للنهضة. ويمثل الفريق الثاني -والذي يشمل العلمانيين والحداثيين- جانب مَن يحقّر من تراث الأمة العربية وثقافتها ، ويَرى أن كل الانحطاط الذي تعيشه الآن هو بسببهما، مع اتفاقهم فيما بينهم حول المفترض فعله حِيال السلوكيات الحضارية والذي لا ينبغي أن تُستلهم إلا من الحضارة الغربية الحديثة نظرًا لتفوقها وتميزها -بنظر هذا الفريق- على كل التجارب الحضارية التاريخية. هذا الانقسام في الفئات الفكرية حول النهضة وعواملها يجعل من كليهما عقبة أمام التقدم والنهضة، إذ لا نهضة لأي أمة بدون قِيمها وثقافتها، حيث إنها لا تستطيع أن تتمثل بقِيم وثقافة غيرها، والقيِم والثقافات -بطبعهما- تتشكلان عبر قرونٍ من الزمان، ويتواصلان عن طريق التوارث من الآباء للأبناء، لذا لا تستطيع أي أمة أن تتشكل بثقافة غيرها لا لسبب سوى غلبتها النهضوية، حيث إن السلوكيات الحضارية -والتي هي غير مُشكلة في مَصدرها ومُبدعها- قادرة على أن تُوظّف وتُصبّ في قالب القيم والثقافة العربيتين. أما ما يتعلق بالفريق التراثي ورؤيته المختلّة حول السلوكيات الحضارية، فإن الاستفادة من التجربة غير الحضارية والتي أثبتت نجاحها وقدرتها على إصلاح الواقع غير مُشكلة بحد ذاتها، إذا وُظِّفت في صالح القيم الإسلامية العربية. وأيضًا عندما تكون السلوكيات قد جُرِّبت ووُظِّفت في واقع ما، فإنها ستكون مضمونة النتائج، إذا لم تتعارض مع قيمنا وثقافتنا، بعكس لو كانت السلوكيات مُبتدعة من ذات الأمة والتي ستكون بالطبع غير مضمونة النتائج. يمثّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد هممتُ أن أنْهى عنِ الغِيلةِ حتَّى ذَكرتُ أنَّ الرُّومَ وفارسَ يصنعونَ ذلِكَ فلا يضرُّ أولادَهم) [رواه مسلم] دور من يدرك أن نهضته في طور الصعود، وأن هناك حضارة لا زالت في المقدمة، لذا فهو لا يرى أي إشكال في استنساخ التجربة السلوكية مع الاحتفاظ بالوعاء الإسلامي الذي يمثل هذا السلوك ويوظفه وفق ما يخدمه ويحفظه. تجربة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الدواوين المُستوحاةِ فكرتُها من الفرس والتي كانت لتنظيم المال الوارد للدولة بالعدل التام تمثّل النموذج المثالي للتعامل مع النهضة عندما تكون في طوْر الصعود في ظل وجود حضارةٍ غالبة، وهو الاحتفاظ بأصل الثقافة والهوية الإسلامية مع الاستفادة من التجربة الحضارية الأخرى، ويظهر الاحتفاظ بالثقافة في كوْن هذه الدواوين قد وُظِّفت لخدمة فرع من فروع الإسلام لا ينفصل عنه وهو العدل المتمثل في توزيع المال لمن يستحقه، فهو نموذج للجمع بين الإشكالين في أي تجربة نهضوية عامة، وفي العربية خاصة. من أظهر مظاهر الانهزامية عند أمةٍ ما، هو الذوبان الكلي بما فيه إطار القيم وإطار السلوك في الحضارة الغالبة. والمشهد المثالي للأمة المغلوبة، هو الاحتفاظ بإطار قِيمها وثقافتها مع نهلها -كتلميذٍ- للسلوك المثالي للحضارة الغالبة. وما وصلت إليه الأمة العربية من انحطاط لا يعني الانجراف وراء القيم الغربية الحديثة، وذلك أن المحاولات النهضوية عبر التاريخ -وأبرزها الإسلامية- لم تستلزم الذوبان الثقافي في الحضارة الغالبة كي تستدرك وضع أمتها وتخلفها. وأيضًا، فإن الثقافة العربية المكوِّنة للمجتمع والموجِّهة لسلوكيّاته لا يمكن أن تقبل بالقيم الغربية المنافية للعقلية العربية فضلًا عن أن تكون إسلامية. وهناك فرق بين الالتصاق بالهوية الإسلامية-العربية وتمثّلها والتشكل بها والنهضة على أساسها وتوظيف السلوكيات الحضارية لصالحها وتوجهها، وبين الالتصاق المذموم بالتاريخ، والبحث فيه عن كل إجابة للواقع، حيث إن معطيات الواقع الجديد تتطلب نمطًا جديدًا في التكفير والإبداع، ولم يعد العالم مجرد استنساخ للحضارات التاريخية. والاستفادة من الحضارة الغربية (السلوكية) مع الاحتفاظ بالقيم الوراثية التي لا نهضة للأمة العربية -بعدما تشكلت بها وتمثّلتها- بدونها تُجيب عن تساؤلات كثيرة حول قدرة النهضة العربية على الاستقلال بنفسها دون المسايرة للحضارة الغربية الحديثة، أو قدرتها على المسايرة مع الانفصال عن قيمها وثقافتها التي تشكلت بها عبر الزمن.