رغم الاضطهاد والظلم الذي مورس على مسلمي الفلبين طوال عقود من الزمان خلت على يد الحكومة الفلبينية، ناهيك عن ويلات ظلم الاحتلال الإسباني والأمريكي من قبل، إلا أن المسلمين في الفلبين وفي العالم عامة تضامنوا مع مأساة إعصار هايان الذي ضرب البلاد مؤخراً. ورغم دخول الإسلام إلى تلك المنطقة أولاً بالدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة عبر التُجّار المسلمين في عام 800 هجرية، حيث كانت الفلبين وقتها تُسمّى (عذراء ماليزيا) وعاصمتها (أمان الله) كما سمّاها بذلك مؤسسها السلطان رجا سليمان، إلا أن الاحتلال الإسباني جاء في عام 923 هجرية 1521م ليطمس الهوية الإسلامية لهذا البلد قلباً وقالباً، من خلال تحويل اسم العاصمة إلى (مانيلا) واسم البلد إلى (الفلبين) نسبة إلى ملكهم الذي تم بعهده احتلالها فيليب الثاني، ليأتي الاحتلال الأمريكي بعد ذلك فيكمل مسيرة الاضطهاد والظلم بحق مسلمي الفلبين، ويضم جنوبها ذو الغالبية المسلمة لشمالها قبل أن يمنح الفلبين استقلالها عام 1946م، ويترك فيها -كالعادة- حكاماً صليبيين موالين له لتستمر محنة ومعاناة المسلمين في البلد إلى الآن. وبغض النظر عن المناطق التي ضربها الإعصار، والتي تقول وسائل الإعلام بأنها المناطق الشرقية والوسطى من البلاد، والتي لا توجد بها كثافة عددية من المسلمين، حيث من المعروف أن المسلمين الذين يشكلون ما بين 22 بالمائة إلى 25 بالمائة من عدد سكان البلاد يتركزون في الجنوب، إلا أن المسلمين أفراداً وحكومات ومنظمات قد أعربت عن تضامنها مع هذا الحدث، وذلك من مبدأ الإنسانية الذي يُعتبَر من أبرز خصائص الإسلام ومزاياه. لقد رفع القرآن الكريم من مكانة الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، فوردت كلمة الإنسان في القرآن الكريم (63) مرة، فضلاً عن ذكره بألفاظ أخرى مثل (يا بني آدم) والتي ذكرت ست مرات، وكلمة الناس التي تكررت (240) مرة، ولعل من أوضح الآيات في هذا المجال قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]. وفي السيرة النبوية الشريفة كثير من المشاهد التي تؤكد علو شأن مبدأ الإنسانية في الإسلام كأحد أبرز خصائصه ومزاياه، فقد عفا الرسول صلى الله عليه عليه وسلم عن أشد الناس عداوة له ولدينه ودعوته، وعن أكثر من آذوه وعذبوه وأصحابه من مشركي قريش في فتح مكةالمكرمة، وقال لهم قولته المشهورة التي تُعبِّرعن سماحة الإسلام وإنسانيته: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، كما أن جميع حروبه ومعاركه صلى الله عليه وسلم تؤكد حرصه على مبدأ الإنسانية. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد التأثر بالحالة الإنسانية التي تنتاب بعض القوم جراء الجدب أو الكوارث والمصائب، وكان يسارع لإغاثتهم ونجدتهم بغض النظر عن أي اعتبار آخر سوى الإنسانية، ومن أعظم الأمثلة الواردة في هذا الشأن ما ورد في الصحيح عن الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ):{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ -قَالَ- ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ) (صحيح مسلم؛ برقم: [2398]). كما لا ينسى التاريخ إنسانية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة، حيث مرت أرض الحجاز بأزمة جفاف وقحط شديد في أواخر عام 17 هجرية، وتجمع في المدينة حوالي 60 ألفاً من العرب من غير أهلها، وقل الطعام وجفت الينابيع وغارت مياه الآبار وأصاب الناس شدة دامت تسعة أشهر، وقد تعامل معها أمير المؤمنين بإنسانية أصبحت مضرب المَثل في التاريخ. ومن هذا الباب، وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومبادئ الإسلام الإنسانية السمحة؛ كان موقف المسلمين بشكلٍ عام من مأساة إعصار هايان في الفلبين، حيث أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين اليوم بياناً جاء فيه: تابع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين باهتمام كبير آثار الإعصار الذي دمّر عشرت القرى الفلبينية، مما أدّى إلى مقتل الآلاف ونكبة الملايين، كما تابع بأسىً عميق آثار الفيضانات التي خلفت مئات القتلى والمشردين في الصومال المنكوبة أصلاً بالجفاف المتطاول والحرب الأهلية المدمِّرة. وهذا هو شأن الإسلام دائماً يدعو أتباعه للرحمة والرأفة بعباد الله تعالى، كما يدعوهم إلى مساعدتهم في وقت الكوارث والنكبات بغض النظر عن الخصومة التي قد تكون بينهم، فالإنسانية لا التشفي هو سلوك المسلمين حتى مع من اضطهدوهم وظلموهم. فهل ستقابل إنسانية المسلمين مع غيرهم بالظلم والقهر بعد انجلاء الكارثة؟! أم أن الإنسانية ستقابل بإنسانية مماثلة على مبدأ قول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60].