سورة الوعود والرعود، والمعجزات والمنجزات، قرأها عربي فأسلم، وفصيح فأعجم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]. استهلال ضخم فخم، مُشْعِر بعظمة المعطِي ومجده، وآية على شأن العطية واتساع دائرتها وشمول خيرها، ولذا كان أعدل الأقوال فيه قول ابن عباس: (هو الخير الكثير). فيعم أكثر من (26) قولًا؛ كالنسل والعلم والنبوة والقرآن والشفاعة والجنة والحوض. وفي الحوض روى مسلم عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: (أَتَدْرُونَ ما الكَوْثَرُ؟). فقلنا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ. قال: (فإنه نَهْرٌ وعدَنِيهِ ربي عز وجل عليه خيرٌ كثيرٌ، هو حوضٌ تَرِدُ عليه أمتي يومَ القيامة، آنيتُهُ عددُ النجوم...) الحديث. {أَعْطَيْنَاكَ} عطاء لا رجعة فيه، فهو تمليك أبدَيٌّ سرمدي لا يحول ولا يزول {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]. {أَعْطَيْنَاكَ} أعطيناك في الأزل قَدَرًا وحتمًا لا مردَّ له. {أَعْطَيْنَاكَ} فلا أحد يرُدُّ ما أعطيناك، وسوف نعطيك من هذا الخير الكثير حتى ترضى؛ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، عطاء سابق متجدِّد، ليس له من نفاد. إنها لغة العطاء والكرم، حتى حين كان بمكة بلا أتباع ولا قوة ولا سلطان، روحٌ من الثقة والإيمان بالوعد الكريم، وإعجازٌ تشهد به الدهور، وتربيةٌ على قراءة الأحداث بتفاؤل وإشراق؛ فالعطاء له صلى الله عليه وسلم أصالة، ولأمته وأتباعه، بل وللبشر كلهم أجمعين. كيف لا؟! والرسالة من هذا العطاء، وهي رحمة للعالمين! إذا كان هو قد أعطاك، فماذا يَضِيرك أن يحاول حرمانَك بشرٌ كيدُهم أوْهَى من بيت العنكبوت؟ أو أن يُعَيِّرك مهزول مسحوق تحت قبضة لحظته الحاضرة؟ (دعوه، فهو رجل أبتر، لا عَقِب له، فإذا هلك خمل ذكره ولم يعرفه أحد)! (إني لأبغضه، وإنه لرجل أبتر ليس له أولاد). عقلية سطحية تعتمد على النسل والقبيلة والذكورة، وتطيح بالقيم المعرفية والأخلاقية، ولا تعي حركة التاريخ، {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا} [المدثر: 11-16]. أين ذهب المال؟ أين احتشد البنون؟ الزعامة عندها هي المال والذكورة والسطوة.. ومعها: الطمع في المزيد! أعطاه الله فاطمة زَوْجَ عليٍّ رضي الله عنهما، وأعطاه الحسن والحسين، وذريتَهم العريضة الباقية الفاضلة، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. ولا يعظم مع عفو الله ذنب دون الشرك، وهنا طمع من نوع آخر {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]. ثورة جادة على تقاليد الجاهلية وموروثاتها الراسخة، وأعرابيتها الجافية. حفاوة بالأنثى في بيئة تَزْدريها وتَئِدها أحيانًا. تخيَّلْ رجلًا يموت، وليس وراءه إلا فتاته التي فقدت أمَّها (خديجة) قبل الهجرة، لتعيش بعده ستة أشهر، وتُقبَض روحها الطاهرة وهي في الثلاثين من عمرها، وخلفها صِبْيَتها الصغار. هي بنتُ مَن؟ هي زوجُ مَن؟ هي أمُّ مَن؟ ** مَن ذا يُدانِي في الفَخَارِ أباها هي أسوةٌ للأمَّهات وقدوةٌ ** يترسَّمُ القمرُ المنيرُ خُطاها فَمُها يُرَتِّلُ آي ربِّكَ بينما ** يدُها تديرُ على الشعيرِ رَحاها أهمية النسل ليست في ذكورته وأنوثته كما يظنون، ولا في كثرته وعديده كما يعتقدون، وربما كانت الأنوثة {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81]، أو كانت الذكورة شقاءً وبلاءً، وربما كانت الكثرة كمًّا بلا كيف، أو كمَا عبَّر كُثَيِّر عَزَّة بحضرة عبد الملك: بُغَاثُ الطَّيرِ أَطوَلُها رِقابًا ** وَلَم تَطُلِ البُزاةُ وَلا الصُّقورُ خَشاشُ الطَّيرِ أَكثَرُها فِراخًا ** وأُمُّ الصَّقرِ مِقلاةٌ نَزورُ ضِعافُ الأُسدِ أَكثرُها زَئيرًا ** وَأَصرَمُها اللَواتي لا تَزيرُ وَقَد عَظُمَ البَعيرُ بِغَيرِ لُبٍّ ** فَلَم يَستَغنِ بِالعِظَمِ البَعيرُ فَما عِظَمُ الرِجالِ لَهُم بزَيْنٍ ** وَلَكِن زَيْنُهُم كَرَمٌ وَخِيرُ كانت فاطمة رضي الله عنها من هذا الكوثر، وكانت ذريتها، وكان الأتباع الذين يُعدُّون بالمليارات عبر العصور، ومَن سيخلق الله بعدُ، إلى نهاية الحياة. {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، دعوة إلى تجاوز الجدل مع الشانئين والمتربصين إلى العمل والإنجاز، سواء تمثَّل في إحسان في العبادة، أو في إحسان إلى الخلق، والمهم الجوهر أيضًا، قبل الكثرة أو الشكليات، فجمال المقصد سر جمال العمل وقبوله (لِرَبِّكَ). دعهم وصلاتهم التي هي مُكاء وتَصْدِية، ورياء وسُمعة، ووجاهة اجتماعية، وأقبل على صلاتك (لِرَبِّكَ)، وتزوَّد منها، ولو سَبُّوك وعيَّروك وهدَّدوك، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:10،9]، أطع الله واعصهم، وتوقَّع الخير أمامك، وإن كان محجوبًا عن رؤية النظر القصير المحدود. لستَ أبتر، كما يقولون ويتمنون، فالمستقبل لك ولذريتك ولرسالتك، وهم مَن سيخمل ذكره، ويُطَوى فلا يُرْوى، ولن يفتخر أحفادهم بالانتماء إليهم، مَن ذا الذي يعتز بالانتساب لأبي جهل أو أبي لهب، ولو كانوا في الذؤابة؟ مفهوم جديد للحياة، لا يقوم على أساس الذكورة، ولا الكثرة، ولا المال، وإنما على (الإيمان والإحسان). هو الأبتر، لخلوِّه من تلك المعاني، لا أنت، فأنت صاحب الكوثر، مبعوث الرحمة، ومنار العلم، وقدوة الأخلاق، ورمز العبودية، ودليل الهداية، عطاء حِسِّي ومعنوي، تنقطع دون إدراكه الأوهام: بيتك، بنتك، أزواجك، أصحابك، نسيج فريد، ولحمة متينة لم تخرج عن بشريتها، بيد أنها كانت أُنموذجًا يُحتذَى في تجسيد العلاقة وترسيخها. نجاحٌ في سَبْك الصلة وإحكامها، لم يتحقَّق لأي زعيم سياسي أو ديني قبلك ولا بعدك. هل يعي المسلم درس الذكورة والأنوثة، وكيف حقَّق الله معنى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] إلى جوار معنى الكوثر، ووجود العديد الضخم المنتسب إليه عليه السلام من نسل الحسن أو الحسين، أو المنتسب إليه بالإيمان والاتباع والحب؟ وهل يعي درس الكم والكيف في الذرية أو في الجماعة، فالعبرة بالصفات والخلائق والإنجازات وليست بالعدد، يجري هذا في تربية الأسرة على النُّبْل والإبداع والعمل، وليس مجرد الاستكثار من الولد، مهمة الأب لا تنتهي عند تخلق الجنين، بل تبدأ هناك! كما يجري هذا في الدعوة، فالولع بكثرة السواد لا يجب أن يَحُولَ دون العناية بالنوع، وكثيرون يأخذهم معنى إنقاذ الكافرين من النار، ويغفلون عن معنى النموذج والقدوة، وقد وجدت بعض الضعاف يُسْلِمون اليوم تحت ضغط الداعية واستعجاله لإسلامهم أو المجاملة أو الإغراء، ويَرْتَدُّون غدًا، لأنهم لم يسلموا عن اقتناع، ولم يتلقوا دروس التربية والترقية والترسيخ، ولم يروا المجتمع الذي يمنحهم الإحساس بالتفوق الأخلاقي أو التفوق المادي والحضاري، أو يشعرهم بالانتماء الصادق دون طبقية ولا عنصرية. تظل هذه السورة سورة الفأل والأمل والانعتاق من ضغوط الواقع، إلى رؤية العطاء، وتحويل الإيمان بالله إلى طاقة حيوية باعثة على الفعل الجميل والإعراض عن الجاهلين، والإصرار على التغيير الإيجابي للفرد والجماعة، مهما تكاثفت السُّحب، وتعاظمت المعوقات، فالتغيير قادم، ونفخة البشر الهزيل لا تطفئ شمس الله ولا تطال علياءها، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.