لقد شغلت فلسفة لعبة الشطرنج تفكير العديد من الكُتّاب والمحلّلين السياسيين ممن يرون في اللعبة تجسيداً لواقع الاستبداد السياسيّ المتمثل بإسقاط مملكة بأكملها للإبقاء على حياة الملك، ويظهر أنّ اللاعب يحاكي شخصية الحاكم الفرديّ المستبِدّ إلى أبعد حدّ، فجميع تكتيكاته تبدأ بانقلابات متتالية على أحجار مملكته في سبيل الإبقاء على حياته، فيشرع بحالة هجوم على رقعته قبل انطلاقه بالهجوم على مملكة الخصم، وتبدو شخصيات أحجار الشطرنج واقعية إلى درجةٍ مطابقة غير أنّ الحجر المُسمّى (بالفيل) في النّسخة العربيّة من اللعبة هو ما يستوقفك، فالقوة العسكريّة تمثّلت في (الحصان) أو _Knight_ أيّ (الفارس) كما في النّسخة الإنجليزية من اللعبة المُعتمدة عالميّاً، وتجسيده للاستقواء بالسيطرة العسكريّة جليّ بتفرّده بالقدرة على القفز فوق الجميع ولا ينتظر السماح بالمرور ممنْ أمامه، فما الدّاعي إلى إيجاد قوة عسكريّة ثانية اسمها الفيل؟ تنكشف الإجابة بالرّجوع إلى اسم الفيل في النّسخة العالميّة لتجده _Bishop_ أيّ (الأُسْقُفّ) ليجسدَ هذا الاختيار لاسم الحجر القوة الدينية التي يستعين بها المستبِدّ للإبقاء على نفسه حاكماً، وهكذا تكتمل مملكة المستبِدّ بعالِميّ دين أحدهما يسير على الرقع السوداء فقط وبشكل قُطريّ غير مستقيم أبداً، والثاني يسير على الرقع البيضاء لكنّ سيره بخط معّوَجّ منحرف كذلك، ويتمركز موقع هذين العالِمين بين الحصان والملك أو الوزير، من خلال علاقة مشبوهة تمنح المستبِدّ سِتراً دينيّاً فاسداً لعورات الظلم والقهر البيّنة في منظومة الاستبداد السياسيّ. هذه العلاقة قد أبان معالمها الرّحالة عبد الرحمن الكواكبي في كتابيه طبائع الاستبداد وأمّ القرى، حينما عدّ الاستبداد السياسيّ أصل داء الأمة وجرثومة هذا الداء الجهل، وأضرّ أنواعه هو الجهل بالدّين، وأمّا عن دواء الاستبداد السياسيّ الناجع هو الشورى الدستوريّة، نتيجة قد خلص إليها الكواكبي بعد بحث دامَ ثلاثين عاماً. لقد قرّع الكواكبي أولئك الذين سمّاهم (بالمعمَّمِين) و(المتنسِّكين) و(فقهاء الاستبداد) الجاعلين من تأييدهم أو صمتهم يراعاً يعزف به المستبِّدّ ضوضاءات الطغيان لتصمّ الآذان، فهؤلاء فِيَلة الملك المتلوّنون برقعهم في صومعة أسيادهم، تكتسي فتاواهم بألوان دينيّة تلوّن عنق آية أو حديث أو استنباط فقهيّ، فكل ما يريده المستبِّدّ تنطق به خراطيم الفِيَلة بعمائم لا تعدم النصّ ما دام الشعب لا يعدم الجهل، حقيقة أوجعت الكواكبيّ فصرّح بها: (ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟! اللّهم إنّ المستبِّدّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدّين الذي أنزلت فلا حول ولا قوة إلّا بك!) ويلازم الاستبداد وحاشيته على تغذية قلوب شعوبهم بدغدغات دينيّة، إلّا أنّها لم تَعُدْ فكاهة خاصّة إذا جاءت لإحياء انفعال شعبي ساخر لمشهد دمويّ اقترفته آلة الاستبداد، فمِنْ على المنبر الذي علاه بلاغ حبيب الأمّة وسيّدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (فإنَّ دماءَكُمْ وأموالَكُم عليكُمْ حرَامٌ، كحُرْمَةِ يومِكُمْ هذَا، في شهرِكُم هذَا، في بلَدِكُم هذَا، إلى يومِ تلقَونَ ربَّكُم، ألا هَلْ بَلَّغْتُ. قالوا: نعمْ، قالَ: اللهمَّ اشْهَدْ)؛ هو ذات المنبر الذي أغارت عليه عمائم أوجدت عشرات المبررات الشرعيّة لبغي دبّاباتٍ سحقت الأحياء الأبرياء وحرّقّت الجثث واقتحمت المساجد، حملوا رقاب المسلمين حبّات سبحة منظومة في خيط التديّن الفاسد للتقرّب إلى المستبِّدّ. وقد سبق وحدّثنا التاريخ أنّ لثوّار الحريّة أخطاء فتّاكة من أبرزها الاقتصار على إسقاط وجه الاستبداد الشخصيّ المتمثّل في الحاكم، والغفلة عن عملية تغيير شاملة مباشرة تقتلع جذور الاستبداد الضاربة في الأرض، فكيف ستسكن الحريّة الوليدة وتستقرّ العدالة الناشئة وقد امتلأت الزقاق بمساجد الضرار؟ وحدثّنا التاريخ أنّ من رأفة الرحمن بهذه الأمّة أنْ وفّقها بعلماء عاملين يقفون في وجه فِيَلة الملك، يضبطون تفعيل النّصوص الشرعيّة في موقعها السليم فتنضبط للبشرية حريتها وعدالتها، فلا حجّة للأمّة المسلمة أن تدّعي اِلتباس الفتاوى والمواقف الشرعيّة، وتختار الصمت أو الإذعان، فكيف لدين الحقّ أن يعجز عن تبيان الفوارق بين الظلم والعدالة؟ وكيف وصل الحال بالأمّة المسلمة أن جُعل الاستبداد السياسيّ قضية تحتمل اختلاف الآراء! هذه الجريمة ألهبت وجدان الشيخ الأزهريّ الثائر محمد الغزالي، وطرحها في عدد من مؤلفاته، وقالها قولة حقّ : (أنّ الإسلام أشرف مِنْ أنْ يؤخذ عن أفواه الحمقى، وأنّ الدين الذي قام على البصر السديد، والعقل الرشيد، والعزم الشديد، لن يصلح للقيام عليه رجال واهون مهازيل..، يرون المنكر فلا تتمعّر وجوههم، ويبصرون الفساد فلا يسمع لهم في الشغب عليه صوت..لايشعرون بما في الشرّ من قبح، ويبصرون الظلم فلا يشمئزون منه.أولئك قوم ماتت قلوبهم، والقلوب الميتة لا يسكنها إيمان). جموع فِيَلة الملك خطفت التشريع الإسلامي ثم مثّلت به ليخدم على بلاط الاستبداد، وقدّموا الدين قرباناً في أسواق النّخاسة الاستبدادية والسلطوية، ومالم تستطع الأمّة أن تعلنها (كش فِيَلة) لن يكون هناك (كش ملك).