بقلم: زهير إسماعيل ما كان لسؤال: هل تسقط تونس؟ ليُطرح قبل الانقلاب على ثورة 25 يناير في مصر. ولم يُطرح السؤال من قبل خصوم المسار التأسيسي فحسب، وإنّما كان أيضا سؤال من بَنَوا آمالا على ثورة المجال العربي المنطلقة من تونس. ذلك أن الانقلاب المصري كان في جانب منه عنوانا على تحوّل في ميزان القوى لفائدة الثورة المضادّة، وهو تحوّل يتمّ في مركز المجال العربي مصر. ولم يكن احتمال أن تُجهض التجربة أمرا لا مفكّرا فيه، قبل انقلاب العسكر، عند من آمنوا بحركة الحريّة والكرامة، غير أنّ الثقة في المستقبل اهتزّت، ولهذا الاهتزاز ما يبرّره. المسار والحوار.. العلاقة لا شكّ أنّ فكرة الحوار الوطني موصولة بالمأزق الخطير الذي انتهت إليه هذه التجربة الوليدة، فلا دعاة التأسيس تمكّنوا من التقدّم على مسار التأسيس المُعطّل، ولا المعارضة نجحت في إسقاط الحكومة لإعادة النّظر في العمليّة التأسيسيّة برمّتها. وقد كانت الدعوات صريحة عشيّة انقلاب العسكر في مصر إلى ضرورة استنساخ هذا النموذج في تونس. وكانت أكثر من مناشدة للمؤسستين الأمنيّة والعسكريّة لإنجاز المهمّة، مثلما كانت تصريحاتٌ من جهات أمنيّة خليجيّة تُجاهر بدورها في مصر ولا تُخفي دورها القادم في تونس. وبلغ الاستهتار بأحدهم أن ضبط موعدا لإسقاط تجربة البناء الديمقراطي في تونس تحت عنوان إسقاط حكم الإخوان. في هذا السياق المشحون جاء اغتيال النائب عن التيار الشعبي يوم 25 جويلية الماضي، وقد قارب التأسيسُ على الاكتمال، ليفجّر الوضع. وتعطّلت أعمال المجلس بانسحاب نواب المعارضة، وانطلق اعتصام الرّحيل بباردو، وهدّدت المعارضة باللجوء إلى الشارع لطي تجربة الترويكا. إلاّ أنّه لم تكن من الناس استجابة. ولم تنفع الأرقام التي نفخ فيها إعلام المنظومة القديمة استئناسا بما حدث في مصر. وقرأت الجهات الاجتماعية وعلى رأسها الاتّحاد العام التونسي للشغل المشهد قراءة واقعيّة كان من نتائجها أن انفصلت، في دعوتها إلى الحوار، عن أجندة الأحزاب السياسية، وهذا ما رشّح الجهات الاجتماعيّة ومنظّمات المجتمع المدني لأن تكون راعية، بعد التزامها بالوقوف على نفس المسافة من الجميع. تبدو علاقة المسار التأسيسي بالحوار الوطني أهمّ مدخل لفهم ما يحدث في تونس هذه الأيّام. ولا شك أنّ للتجاذبات السياسيّة التي تفاقمت بعد جريمة الاغتيال السياسي الأول يوم 6 فيفري 2013 أثرا على هذه العلاقة وعلى تمثّلها، ولذلك فإنّ أوّل ما ارتسم في الدّاخل وامتدّ صداه خارج البلاد هو أنّ الحوار الوطني كان نتيجة لتعطّل المسار التأسيسي. وبلغة التجاذب السياسي فإنّ المسؤول الأوّل عن انسداد الأفق هو الترويكا الحاكمة، ولا يعود ذيوع وجهة النّظر هذه إلى دلائل قويّة من التجربة بقدر ما يجد تفسيره في الشروط التي تندرج فيها هذه التجربة نفسها. وهي شروط المنظومة القديمة، لذلك كان التأسيس عمليّة مضنية مزدوجة بعيدة المدى تقوم على فعلين: تفكيك وتركيب. وترتقي علاقة المنظومة القديمة بمسار التأسيس الديمقراطي إلى منزلة القانون الكلي الذي يفسّر المشهد السياسي في تونس بكلّ مفرداته. وتبدو هذه العلاقة متناسبة عكسيّا: إذ إن كلّ خطوة في المسار التأسيسي هي خطوة في مسار تفكيك المنظومة القديمة، والعكس صحيح تماما: فقد كان تعطّل المسار التأسيسي منذ جريمة الاغتيال السياسي الثانية يوم 25 جويلية 2013 علامة على استعادة المنظومة القديمة زمام المبادرة. الحوار الوطني لا يخرج عن هذا المبدأ الكلّي المتحكّم في العملية السياسية وفي مآلاتها، ومن المهمّ الإشارة إلى أنّه انطلق في سياق جعل منه فعاليّة موازية لمسار التأسيس وبديلا عنه. ولو نظرنا في الأطراف التي بادرت إلى فكرة الحوار الوطني، لوجدنا أنّها تتقاطع، بدرجات متفاوتة، في عدم جدوى المجلس الوطني التأسيسي بعد سنة من انتخابه. وهذا ليس بمستغرب لأنّ فكرة الحوار الوطني انطلقت في الأصل شرعية بديلة عن شرعيّة المجلس الوطني المنتهية، من وجهة نظر المعارضة. المسار والحوار.. الأطوار كانت انطلاقة الحوار الوطني مثيرة، فقد تفاجأت الترويكا دون غيرها من الأطراف الحزبيّة والجمعياتيّة المشاركة، حين قُدّمت لها وثيقة ترسم خريطة الطريق، وجُعِل الإمضاء عليها جوازَ عبور إلى جلسات الحوار، وهي خريطة تجمع بين مراحل الحوار وجانب ممّا يمكن أن يصل إليه من نتائج سياسيّة. ولئن أذعنت حركة النهضة إلى الإمضاء على الوثيقة المذكورة، وكان لحزب التكتّل الاستعداد الكافي للإمضاء دون إلحاح يذكر، فإنّ حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة رفض أن تكون المشاركة في الحوار مشروطة، وأن يكون، منه أو من غيره من الأحزاب، إمضاءٌ على نتائج الحوار قبل انطلاقه. وبذلك تكون الترويكا قد دخلت إلى الحوار مفكّكة، رغم تأكيد حزب المؤتمر أنّه سيتفاعل مع نتائج الحوار تفاعلا مشروطا بتلازم المسارين الحكومي والمسار التأسيسي في إطار مرجعيّة المجلس الوطني التأسيسي إلى حين انتخاب البرلمان الجديد. كانت جولات الحوار عسيرة ومهددة بالتوقّف من حين لآخر. ولئن كان من الجميع تأكيدٌ على تلازم المسارين فإنّ مدار التجاذب العنيف كان على المسار الحكومي، وتحديدا على اختيار رئيس الحكومة الجديدة. وكانت لعبة الشدّ والجذب مثيرة، انشدّ النّاس إليها انشداد جمهور الملعب إلى لحظات حاسمات من مباراة مصيريّة. وتراوح أداء اللاعبين السياسيّين بين عشوائيّة تنبئ عن ارتباك مرجعي وبين حرفيّة عالية، وبين عشوائيّة مُهدِّدة وحرفيّة مُجوِّدة تلوح منها معالم حياةٍ سياسيّةٍ حقيقيّة تأخّر ظهورها لأكثر من خمسين عاما. وفي مستوى المسار التأسيسي، عمدت الأغلبيّة إلى إحداث تنقيحات تعلّقت برئاسة المجلس وبشروط انعقاد الجلسات العامّة. فكان أن تعطّل الحوار ولم تُستأنف جلساته إلاّ بعد تراجع حركة النهضة عن التنقيحات المذكورة. وبدا ظاهرا أنّ مرجعيّة المجلس الوطني وسيادته على نفسه أقرب إلى الرغبة منها إلى الحقيقة الموضوعيّة. وبرزت معادلة جديدة طرفاها المجلس الوطني التأسيسي والحوار الوطني تأخذ طريقها وقوامها من ضرورة التوافق حول المسائل الكبرى قبل أن تُعرض على المجلس. وكانت مجاراة ما ينبثق عن الحوار الوطني من توافق من جهة رئاسة الجمهوريّة والأغلبيّة في المجلس الوطني التأسيسي عن وعي عميق بدقّة المرحلة وشروطها وبحجم التحدّيات المطروحة. ومنذ انطلاق الحوار نجحت تونس في كسر موجتين من الانقلاب: كانت الموجة الأولى تستعجل استنساخ الحالة المصريّة ولكنّ إصلاحات دقيقة وعميقة أتتها القيادة التنفيذيّة في الدّولة وخاصّة في رئاسة الجمهوريّة حالت دونها. وتلتها الموجة الثانية سعيا متدهورا إلى استنهاض الشارع في ثورة ثانية، غير أنّ انطباعا عاماّ بدأ يحصل على نطاق واسع خلاصته أنّ ائتلاف المعارضة كان في جانب كبير منه إعادة تركيب للعناصر التي شكّلت قاعدة نظام بن علي. وأنّ المصالح القديمة المُهدَّدة بالروح الديسمبريّة الجديدة نفذت من خلال الاستقطاب الإسلامي/العلماني الكامن لتحويل المعركة الاقتصاديّة الاجتماعيّة المواطنيّة الموحِّدة إلى معركة هويّة مُقسِّمة. وبدل أن يكون مضمون الديمقراطيّة توحيد المجتمع برأب الشرخ الاجتماعي الذي بسببه كانت انتفاضة الهامش المفقّر، أصبح تأسيس الديمقراطيّة، مع احتداد التجاذب السياسي، مسارا منفتحا على الاحتراب الأهلي. المسار والحوار.. المآلات أبان الحوار الوطني عن أنّ الوسَطَ مجالٌ لصراع محتدم بين النهضة ونداء تونس. وقد أمكن للنهضة أن تزيح غريمها خارج الوسط، بعد أن تفكّكت عُرى تحالفاته في إطار جبهة الإنقاذ وصار به مسٌّ من الانقسام. وتتّجه قوى جديدة نحو الوسط ليكون لها موقع، ومن بينها حزب المؤتمر والتحالف الديمقراطي والتيّار الديمقراطي وحركة وفاء. ويبدو أنّ الوسط الذي بدأ في التشكّل قبل الأطراف سيكون قاعدة المشروع الوطني المنشود. كان من نتائج الحوار الوطني تجنّب الاحتراب الأهلي وكبت المنحى الانقلابي داخل الحوار وبشروطه. ومَثّل الاتّفاق على رئيس حكومة جديد خطوة متقدّمة، وتواصل التلازم بين المسارين، رغم التعثّر. ولئن طبع التكتّم مساعي رئيس الحكومة الجديد في تشكيل حكومته، حتّى قبل تكليفه رسميّا، فإنّ مداولات المجلس الوطني التأسيسي للمصادقة على فصول الدستور تُنقل على الهواء مباشرة. وينتظر أن يكون جاهزا مع منتصف الشهر الجاري، فتتوضّح الصورة ويكون استعدادٌ لانتخابات تهيّئُ لمرحلة البناء الإستراتيجي واستقرار الدولة. أشرنا إلى أنّ المشهد السياسي محكوم بصراع بين مكوّنين: المسار التأسيسي والمنظومة القديمة، ولم ينته الصراع إلى نتيجة حاسمة بظهور هذا المكوّن على ذاك بقدر ما استقرّ عند معادلة تعبّر عن خصوصيّة السياق السياسي التونسي. فقد أمكن الجمع بين المكونين وتوحيد المسارين بأن تأسّس الحوار الوطني على قاعدة التأسيس فصار مشروطا بالمجلس الوطني التأسيسي وأمكن التأليف بين الآليّة والمرجعيّة. وهو ما يعبّر عنه في الأدبيّات الصحفيّة التونسيّة بتزامن المسارين. وأصبح مسار البناء الديمقراطي مشروطا بعلامتين: لا لتسليم مؤسسة الرئاسة إلاّ إلى رئيس منتخب، ولا حلّ للمجلس الوطني التأسيسي إلاّ عشيّة انتخاب برلمان جديد. وبين هاتين العلامتين متّسع من الفعل السياسي. هذه المعادلة تجد تفسيرها في السياق السياسي التونسي، ذلك أنّ في البلاد مستويين من الانقسام: انقسام في مستوى النخبة تشير إليه ثنائيّة إسلامي/علماني ولكنّها لا تعبّر عنه بدقّة. وكانت حركة 18 أكتوبر 2005 خطوة متقدّمة في سبيل تخطّيه، غير أنّه كان للاستقطاب الأيديولوجي عودة قويّة. ومَثّل هذا الانقسام منفذا منه تسلل القديم. وظهر فرز جديد على قاعدة الموقف من العمليّة التأسيسيّة، فإذا أردت أن تعرف موقع أي فاعل سياسيّ فاسْألْه عن مسار التأسيس. ومن المفارقة أنّ من سبق إلى مبدأ المجلس الوطني التأسيسي في القصبة 2 هو من ألحّ على حلّ المجلس، وذلك حين خيّبت نتائج انتخابات التأسيسي انتظاره. ولم يُسعفه نصيبه من الثقافة الديمقراطيّة في أن يرى مكانه في العمليّة التأسيسيّة. وأمّا المنظومة القديمة فإنّ موقفها من المسار التأسيسي مبدئيّ لأنّه أتى شاهدا على فشل التأسيس الأوّل في 1959 في الحريّة والتنمية، فضلا عن كون التجربة المنبثقة عنه أصبحت موضوعا للثورة. وأمّا المستوى الثاني من الانقسام فهو انقسام اجتماعي. ورثت تجربة التأسيس الأولى جانبا منه عن حقبة البايات والمرحلة الاستعماريّة المباشرة وكانت لها مساهمة في تعميقه من خلال السياسات المتّبعة. وإذا كان (الهامش المبادر) دقيقا وبليغا في تسمية من فقّره وقهره وبصوت عال: (يا عصابة السُرّاق) فإنّ (المركز المناصر) كان حدّد مصير هذه (العصابة) يوم الانتهاء من التصويت على الدستور، وبلسان مَن وكّلها: ديغاج (Dégage). تتقدّم تونس بصعوبة ولكن بثبات في مسار البناء الديمقراطي. وسيكون رأب الانقسامين بتوحيد النخبة والمجتمع على قاعدة المشروع الوطني الاجتماعي المواطني القيام الفعلي لنموذج مجتمعي جامع في المجال العربي، وستكون الانتخابات المنتظرةّ علامة عليه. قدرُ تونس أن تنجح.