عشق أسلافنا وأجيالنا من الفلاحين النخلة وعانقوا شموخها حبا، وهاموا في إكبارها وفي تمجيدها، يرافقون نموها، ويواكبون تدرج مسار حياتها، فسيلة، وترعرع شبابها والباسق من عمرها، وهي المراحل التي تشبه حياة الإنسان بل تتطابق معها. فهي تنمو ببطء مثلما ينمو، وتكبر ببطء مثلما يكبر، وتثمر بعد طول زمن مثلما يُنجب، وبنفس الشبه تتم عملية التلاقح بين ذكرها وأنثاها، وهي التي في تكاثرها مثل الآدمي معروفة الأصل والصنف في كل نوع فيها عن طريق الفسائل التي تنمو وتنبت من صلب سيقان البالغ من النخيل، حيث أنه لا يلد النوع الواحد من النخيل إلا نوعه وصنفه لا غير. النخلة شجرةٌ دائمة الاخضرار تتعامل مع الطبيعة ومناخ البيئة التي توجد بها من جهة بنعومة خوصها " سعفها " في مقدمة جريدها، ومن جهة أخرى بحدة أشواك أعقاب جريدها، تصنع لنفسها بذلك المناعة وتوفر عوامل الحماية والدفاع الذاتي ما عدا على الإنسان الذي عليه أن يعرف كيف يتصرف مع تلك النعومة، وتلك الحدة فيوظفها كما يشاء في الوقت الذي يشاء. ينظر إليها المالك بتأمل وبتفاؤل، فيرى فيها مرآته الصافية التي ترتسم عليها تقاسيم مستقبله، وتعكس مارات محياه، فيجعل منها صمام أمان حياته وضمان عيشه الكريم ليبني عليها أحلامه وهواجسه، يتطلع من خلالها إلى رقيه إلى ازدهار آفاقه، ليس الاقتصادية فحسب إنما اعتزازه بملكيتها بحيازته لها أيضا كعربون قوي يترجم وجوده واستقلال سيادته واستقرار أمنه الغذائي بل نموه وتقدمه. إنها ينبوع إلهامه ومصدر اعتزازه بشخصيته أمام الآخرين كونها الصانعة لمكانته الاجتماعية وقيمته الإنسانية في محيطه الاجتماعي وفي وسطه العائلي. يتعهدها بالعناية والرعاية والمتابعة المستمرة كأنه يقوم بالإشراف الدائم على تربية فلذات كبده الذين يسعى لأن يجعل منهم عناصر مفيدة فاعلة بأداء إيجابي يتباهى بهم ويفتخر وحال لسانه يقول: هؤلاء نتاج عنايتي ومن فعل تربيتي. في غير جحود ولا كنود تستجيب النخلة لطموحاته، لانشغالاته، ولإرهاصاته فتدر عليه من أعماق قلبها ومن أسفل جذعها إلى أعلى رأسها بأكمام من طلع نضيد، غمداً وإغريضاً، فعراجين تتدلى بثمر البسر والرطب والتمر يعود على متعهدها على مالكها على المتعلق بها غذاءً كاملا مفيداً، وربحا وفيرًا واقتصادا قريراً إن فلاحي النخيل يزكون ارتباطهم بِفلح النخيل بما يقول الرسول )ص( : "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خُلِقت من الطين الذي خلق منه آدم". إن فلاحي هذه الشجرة المباركة يرون أن مسؤوليتهم بضرورة إكرام عمتنا النخلة تتعاظم أمام هذا الحديث النبوي الشريف وأمام ذكرها في أكثرمن عشرين موضعٍ في القرآن الكريم، فضلا عما أوتي بخصوصها في التوراة والتلمود والإنجيل. وينظر إليها السائح المُرَفِه على نفسه أنها آية من آيات الجمال النادرة التي تنشأ بفضل تجميع غرسها مشكلة واحات غناءة خلابة تأخذ الألباب وتستهوي بسمو أشجارها وشموخها وباشرئبابها السحري الزائرين، حيث أنها تجذب الناس لعرائشها فترتاح إليها نفوسهم وهم في إعجابٍ عجيب بما تتميز بهم عمتهم من خصائص ومميزات إنسانية حافلة. من أجل ذلك تُشَدُ إليها الرحال استمتاعا وتشد إليها الرحال طمعا في نيل تمرها الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "بيت لا تمر فيه جياع أهله" وهو الثمرة الغنية بكل مقومات الغذاء اللازمة للإنسان تجانسا وتكاملا، زيادة عن مزايا ليفها وسعفها ومَسَدِها وجريدها وما إلى ذلك من مواد عديدة تُستخرج من ثمار النخلة وتُصنع من أجزائها المختلفة. أما اليوم وفي هذا الصيف بالذات وبمناسبة إحياء الذكرى الخمسين للاستقلال يشاهد الجميع ويشهدون أن النخلة البسكرية تنتقل بقامتها الهيفاء إلى العاصمة بذاتها قاطعة أكثر من أربعمائة كلم لتقتحم الشوارع الرئيسة والجادات العاصمية وكبرى الساحات والدوارات الرئيسية فتنتصب فيها بإباء تناطح الشامخ من العمارات بهاماتها التي تطاول السماء. من المعروف أن واحات نخيل بسكرة من أجمل واحات نخيل العالم وأن نوع تمر بسكرة مفقود في غير بسكرة، وها هو نخيل بسكرة يشارك بقوة في تزيين عاصمة البلاد وتجميلها عشية الاحتفاء بالذكرى الخمسين لاستعادة السيادة الوطنية فيضفي عليها مسحة جمالية غير معهودة ويعطيها منظراً أنيقاً غير مألوف، فتحية إكبار وإجلال على صنيعك وعلى مساهمتك وطبيعة صمودك أيتها العمة، أيتها النخلة...!؟