لماذا كان ثمن التحول والتغيير في تونس ومصر،معقولا ومقبولا إلى حد ما، بينما كان في ليبيا باهظا ومكلفا، وربما سيكون أكثر كلفة في سوريا؟ سؤال لا يملك المتابع للشأن العربي إلا أن يطرحه، ويعيد طرحه، كلما فتح التلفاز أو تصفح الجرائد، ليصطدم بالأرقام المريعة لعدد الضحايا السوريين، الذين يسقطون يوميا سواء من قوات النظام والشبيحة، أو من المعارضة المسلحة والمدنيين، دون أن تظهر في الأفق بوادر حقيقية »لانتصار« هذا الطرف أو ذاك، ودون أن تبدو ملامح مخرج سياسي تفاوضي، رغم المبادرات الأممية والإقليمية العديدة والمتكررة مع التفاوت الكبير بين قوى الأطراف المتحاربة، لا يبدو أنه بإمكان الجيش السوري حسم الصراع عسكريا، لأن حرب المدن والشوارع التي تفرضها عليه قوى المعارضة، بصدد التحول إلى حرب أهلية حقيقية، وتدفع بالبلد دفعا إلى نفق مظلم، له بداية لكن لا أحد يمكن أن يتنبأ بنهايته الوخيمة، التي قد تتحول إلى حرب مذهبية طائفية وإثنية، لا علاقة لها لا بالديمقراطية ولا بدولة المواطنة التي ينشدها السوريون• وإذا كان المطروح عربيا اليوم، ليس هو الإصلاح والتغيير والتحول، من عدمه، فإن السؤال المباشر الذي يليه، هو كيف تأتى لبلدان عربية من مثل تونس ومصر واليمن إلى حد ما، التخلص من نظام دكتاتوري أو ذي توجهات دكتاتورية عشائرية عصبوية عائلية في ظرف وجيز نسبيا وبثمن مقبول اجتماعيا واقتصاديا، بينما استعصى الأمر في بلدان عربية أخرى، كما كانت الحال في ليبيا وكما نشهده في هذه الأيام في سوريا• أغلب المراقبين والخبراء يميلون إلى التأكيد بأن العامل الأساسي الذي ساعد في الحالة التونسية والمصرية على تجاوز التحول بأقل الأضرار، هو وجود التنظيم الاجتماعي الحزبي القائم في البلدين، والذي كان يعرف استقلالا نسبيا في تونس، ويعنون به نقابة إتحاد الشغل التونسي الذي استطاع أن يؤطر إلى حد بعيد الحركة الاحتجاجية، ويكون له صوت مسموع على الساحة التونسية. أما في مصر فإن تنظيم الإخوان المسلمين المتجذر وسط الفئات الشعبية وهيمنة الإخوان على أغلب النقابات المهنية، هو الذي جعل الحراك الشعبي والاحتجاجات المليونية، لا تفلت عن السيطرة وتثبت على المطالب الرئيسية للشارع المصري، كما أن التنظيم القبلي المتأصل في اليمن قد لعب دوره هو الآخر في لجم العنف الزائد عن الحد، وتثبيت الحركة الاحتجاجية في مطلبها بمغادرة الرئيس صالح للحكم. وإذا كانت ليبيا وسوريا، قد انخرطتا مباشرة في أعمال العنف المسلح، فإن ذلك لا يعود فقط إلى طبيعة نظام الحكم الذي لا يعتمد سوى على القوة العسكرية والأمنية وحدها، وإنما أيضا، وربما بالأساس إلى افتقاد الشعب الليبي ومن بعده الشعب السوري إلى أي تنظيم مستقل أو شبه مستقل عن السلطة، مما جعل الصدام المباشر والعنيف بين النظام والحركة الشعبية الاحتجاجية أمرا محتما ولا مفر منه. الطبيعة الأمنية للنظام في مصر وتونس، لا تختلف في شيء عنها في ليبيا وسوريا، ولكن سماح النظام أو عجزه عن تجريف الساحة السياسية من كل تنظيم نقابي أو دعوي أو حزبي معارض، هو الذي خدم في النهاية مصر وتونس، وحال دون غرقهما في الحرب الأهلية المدمرة. إن الأنظمة العربية التي نجحت في تصحير الساحة السياسية وتجريفها من كل تنظيم يحظى بالحد الأدنى من المصداقية، في نظر الشعب والفئات المهمشة خاصة، هي التي وفرت كل الشروط الموضوعية للحرب الأهلية وتدمير البلد••• وبالإمكان منذ الآن التنبؤ بأن بلدانا خليجية وعربية أخرى، ستعرف ذات المسار الذي عرفه التحول في البلدان الجملوكية، ولا شيء مستقبلا يمنع المواطن العربي في هذه البلدان أن يطمح في المزيدمن الحرية والديمقراطية والمواطنة، خاصة إذا ما نجحت بلدان ما يسمى »الربيع العربي« في إقامة أنظمة حكم تداولية تخضع لحكم الصندوق وتقبل بتقديم كشف الحساب.. الفصول قد تتأخر فعلا في بعض السنوات، ولكن قوانين الطبيعة تأبى إلا أن تفرض نفسها..وحتى إذا كان الربيع العربي قد يتأخر أو يتأجل في الممالك العربية، فإنه لابد آت، وعندما يأتي سيأخذ حقه كاملا، بما في ذلك استرجاع ما فات منه من الزمن.