تعد الجزائر من أكثر الدول تداولا لموضوع الفساد، بحيث لا تخلو صحيفة أو موقع أو تجمع من تناول هذا الموضوع الخطير، إذ تتسرب يوميا مئات الأخبار عن تورط هذا المسؤول أو ذاك في قضايا فساد، يضاف إليها التقارير الصادرة عن المنظمات غير الحكومية، مثل منظمة الشفافية الدولية، أو تلك الصادرة عن الجهات الأمنية التي تحضر عشرات الملفات الخاصة بالمسؤولين، ومع كل هذا الكم من المعلومات والإثارة لا يتم تحريك أي ساكن لمعالجة هذه الآفة أو تكذيب تلك الأخبار والادعاءات؟ كلام كثير وجهد يسير؟! لطالما تساءلنا عن سر هذه الطريقة المريبة في : أولا نشر كل هذا الكم من المعلومات والأرقام والتهم التي لم يسلم منها أي طرف، بما في ذلك مسؤوليبن كبار، وثانيا عن سبب إحجام النائب العام عن الدعوة إلى فتح تحقيقات في كل هذه الإشاعات والتقارير والمعلومات. إن القانون والعرف والمنطق يفرض أن يباشر النائب العام بالدعوة إلى فتح تحقيق حول أي معلومة أو تهمة يطلقها أشخاص طبيعيون أو معنويون، وتحريك كل أدوات القضاء والعدالة للتحقيق وتطبيق أحكام القانون، ولكن ما يحدث عندنا يذهل حقا، وكأن هناك اتفاقا بين مختلف الأطراف على تحويل موضوع الفساد إلى عرف وسنة حميدة لا تستوجب حتى المساءلة أو التحري في حدود القانون• لقد سمعنا عن ملفات ضخمة مثل ملف الطريق السيار والفساد في سونطراك وفي العديد من المؤسسات. سمعنا عن الحسابات التي تنتفخ يوميا في بنوك سويسرا لتحويل الأموال العامة إلى هناك،. وقرأنا عن الشقق الفاخرة التي يكون قد اقتناها المسؤولون الجزائريون بملايين الدولارات في أوروبا، وسمعنا عن سرقة أموال البنوك ووكالات البريد وميزانيات المستشفيات والجامعات والوزارات، ورأينا بأم أعيننا كيف انسحب المستثمرون الأجانب وكيف رفض معظمهم الإقامة في الجزائر لما لمسوه من فساد غير مسبوق في أسوأ بقاع العالم. إن كل ما سمعنا وقرأنا عن موضوع الفساد في الجزائر لو حصل مثقال ذرة منه في دولة قانون لأدى إلى ثورة حقيقية، هذا مع العلم أن هناك اقتناعا لدى العام والخاص بأن ما خفي كان أعظم ويتجاوز حدود العقل والتصور. هذا الواقع يجعلنا نتساءل عن أسباب الصمت الرسمي والمؤسساتي على هذه الوضعية وعدم تفعيل آليات القانون بشكل رادع وكفيل بالتخفيف من مساحة الفساد، وذلك أضعف الإيمان. التساؤل الثاني يخص المغزى من إطلاق كل هذا السيل من الأخبار الخاصة بالفساد ونهب المال العام؟ ولماذا تتزايد أحيانا وتتراجع أحيانا أخرى؟ ولماذا تخص أطرافا دون أخرى؟ ومن هي الجهة التي تعمل على هذا الملف، هل المراد منه تصفية حسابات أم التحضير لقرارات أو التأثير في خيارات؟ ولماذا تعجز العدالة الجزائرية كل هذا العجز عن التعاطي مع موضوع الفساد، هل لأنها هي الأخرى متورطة فيه من خلال توظيف القضاء لخدمة السياسة؟ أو أن الغرض هو محاولة تهييج الشارع والزج به في حركة عنف وصدام لتمرير مشاريع مشبوهة؟ أسئلة عديدة نطرحها ونحن نقرأ خبر تنبيه الأجهزة الأمنية المكلفة بإعداد تقارير حول الفساد من خطورة اتساع ظاهرة الفساد واتخاذ أبعادا لم يسبق لها مثيل، كما جاء في بعض الصحف الوطنية؟ التشخيص الحاضر والعلاج الغائب إن قيام أجهزة الأمن بإعداد التقارير حول كمل ما يتعلق بالمجتمع هو من صميم وظيفتها،وهي تقوم بشكل واف وتقدم تقاريرها، خاصة عند تعيين المسؤولين، ولا يمكن لأحد أن يشكك في نزاهة تلك التقارير، لذا فإن المشكل لا يتعلق بالأجهزة الأمنية، بل بالأطراف السياسية التي غالبا ما لا تراعي تلك الحقائق التي تقدمها الأجهزة المختصة، بحيث يتم اختيار مسؤولين ممن يتوفرون على ملفات مشينة ويتم إبعاد الأشخاص الأكفاء والنزهاء. الدليل على هذا أن جل المؤسسات الوطنية إن لم تكن كلها، تعرف هذه الظاهرة بشكل أو بآخر، بل أخطر من هذا فإن مساحة الفساد تتوسع بالرغم من القوانين الردعية واللجان المكلفة بمحاربة الفساد، إذن فالقرار سياسيا وليس أمنيا أو حتى قانونيا.الآن وأمام ناقوس الخطر هذا الذي تكون قد رفعته التقارير الأمنية، بات من حق المواطن أن يتساءل إلى متى استمرار هذا الوضع؟ ولماذا لا تقوم أجهزة الدولة بوظيفتها لمحاسبة المسؤولين عن شيوع فكر الفساد والنهب؟ وما فائدة الأموال التي تصرف على أجهزة لا تقوم بالحد الأدنى من مهامها؟ وهل تملك السلطة حقا الإرادة السياسية لتغيير هذه الأوضاع؟ إذا كان الغرض من إثارة هذه القلاقل وكشف كل هذه الفضائح، التي هي واقع يلمسه المواطن بكل سهولة، هو توظيف التذمر الشعبي لتحقيق مسارات خاصة ومعينة ومحاولة وضع حد لهذا الجمود بطريقة قسرية، فإن ذلك لن يؤدي إلى التغيير المطلوب، لأنه لا يقدم الضمانات الكافية باقتراح تركيبة بشرية كفأة ونزيهة، قادرة على وقف هذا الانحدار نحو الهاوية في منظومة القيم والممارسة السياسية عموما، بل لن يتعدى تصفية الحسابات بين أطراف متنازعة حول ريع الجزائر. أما إذا كان الغرض هو إحداث القطيعة حقا مع هذه المرحلة المتميزة ببلوغ الفساد سقف الدولة الجزائرية فإن ذلك يستوجب الشروع في مخطط إنقاذ وطني، يبدأ بتعيين حكومة بعيدة عن الصراعات الجهوية والمصلحية والولاءات الشخصية، وتمكينها من صلاحيات واسعة، ومن ثمة القيام بإجراءات شجاعة وجريئة، وصولا إلى إعادة النظر بطريقة جذرية في تسيير مؤسسات الدولة، بدءا من البلدية مرورا بالولاية ووصولا إلى الوزارة وباقي مؤسسات الدولة. السياسة مصدر الداء إن معالجة هذا الوضع تتحقق من خلال الكف عن سياسة لي الذراع واستغفال القانون ومحاولة تمكين فئات من التموقع على حساب القوى الحقيقية والقادرة على إنقاذ البلاد. فعندما نحاول تحليل موضوع منح الاعتمادات للأحزاب الأخيرة التي رأت النور، نتساءل عن مدى جدية السلطة في دمقرطة وترقية العمل الحزبي والسياسي، حيث تحظى أسماء نكرة صغيرة انتهازية مجردة من أية كفاءات بكل هذا القبول واليسر في الحصول على اعتماد أحزاب لا يملك أصحابها أي تصور أو برنامج• إن سعي الداخلية إلى إغراق الساحة السياسية بكل هذا الكم من الأحزاب التي برهنت الانتخابات الأخيرة على مدى ضحالتها وإضرارها بالعمل السياسي، هل هو دليل على عدم وجود النية الحقيقية للتغيير، ومنه فإن هذه الأحزاب سوف تفرز منتخبين لن يغيروا من الواقع شيئا، بل على العكس سوف يعملون على ديمومته، لأنه يضمن لهم الوجود والامتيازات. ثم عندما نقرأ كل هذه الأخبار يوميا عن الامتيازات الخرافية التي تعطي للأسلاك معينة وفئات مهنية دون غيرها فإننا نتساءل عن سبب ذلك؟ فهل لأنهم يؤدون وظائفهم أحسن من باقي الفئات"؟ وهل هم أكثر عطاء من باقي الأسلاك حتى يستثنوا من قوانين تطبق على غيرهم؟وهل يمكن الحفاظ على التوازن والسلم الاجتماعي بجهاز دون آخر، أم بسلطة القانون والعدالة والديمقراطية؟ إننا لا نقصد من خلال هذا الكلام الاستهانة بدور أي سلك من أسلاك الدولة في السهر على خدمة المواطنين والحفاظ على الأمن والاستقرار والتطور. كل هذه المؤشرات لا تدل على أن السيناريو الإصلاحي المضبوط والمختار يسير وفق المعطيات المطلوبة لإنجاز عملية التغيير السلمي والصحيح. إن الجزائر وقبل أيام قليلة من الدخول الاجتماعي والسياسي تقف فعلا في مفترق طرق خطير وقد يكون مصيريا، وستقع مسؤولية تداعياته على كل من يتحمل مسؤولية مهما عظمت أو صغرت. إن الوضع لا يتحمل أي تلاعب أو تماطل أو مغامرة أو تهاون، وقد بات من الضروري، بل من الحتمي التفكير في مبادرة وطنية تضطلع بها القوى السياسية الصادقة والأحزاب الفاعلة والكفاءات الوطنية لإنقاذ الجزائر من سيناريوهات »الربيع العربي« التي بدأت بعض قطوفها تظهر في شكل اعتداءات وتفجيرات وحروب شوارع وإجهاز على النزر القليل من الإنجازات.