في منتصف هذا اليوم، سقطت تلك المرأة من الحساب الأرضي، هذا الحساب الذي ندعي أننا نعرفه حق المعرقة، واندرجت في حساب السماء الذي لا تسقط منه حبة من خردل إلا في كتاب مبين. وليس معنى ذلك أنها لم تكن ضمن هذا الحساب الأخير، بل إنها كانت في صلبه، روحا وددما، منذ أن جاءت إلى هذه الدنيا الفانية. حين بلغني نبأ هذا السقوط لحظة القيلولة، استعدت على التو قول الرسول الأكرم سيدنا محمد (ص): ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وجدت فيه البلاغة مكتملة، قوية المداميك، وتكشف لي أننا لا نعرف من الحديث النبوي الشريف إلا بعض الجمل التي يتلفظ بها البعض دون أن يدركوا معانيها، في الجوامع وفي غير الجوامع. السيدة التي انتقلت إلى رحمة الله اليوم امرأة من طراز آخر، يمر بنا ولا نكاد نتمعن فيه، وفي مضامينه الحياتية. هي أم لأطفال مصابين بعاهات جسدية وعقلية إلا واحدة منهم أكرمها الله بعقل ناضج متكامل، ر احت ترعى شؤونهم جميعا. اضطرت هذه الفتاة إلى أن تتوقف عن العمل الذي تمارسه لكي تتفرغ لشؤون والدتها المريضة وإخوتها المصابين. أما الوالدة التي أصفها بالأم "شجاعة"، فهي حقا من جبلة أخرى. عملت زمنا طويلا في التنظيف بأحد البنوك، ونالت حقها في التقاعد، ولم تتوقف لحظة واحدة عن العناية بأبنائها المصابين وبزوحها المريض أيضا، ذلك الذي لا يكاد يبارح بيته إلا مرة في الأسبوع لكي يجالس بعض رفاقه القدامى في البلدة الصغيرة التي عاش فيها بالقرب من شاطىء البحر. حين قيل لها أنت مصابة بالسرطان، سارعت إلى القول أمام أفراد أسرتها: عليكم جميعا أن تعدوا كفني! ومضت بها الأيام، صعبة قاسية، وذاب جسدها كله، ولم تبق منه إلا كتلة من العظام. فلقد شرش المرض الخبيث في معدتها، وتجاوزها إلى البنكرياس والكبد، ثم نال من قلبها المتهالك ولم تصمد في وجه العملية الجراحية الخطيرة التي أجريت عليها. أحببت أن أكتب هذه السطور القليلة عن هذه المرأة التي اجتهدت لكي تدخر بعض المال وتشتري دارة تضم أبناءها جميعا. و أردت أيضا أن أكتب عنها لأن الإنسان بطبعه يتناسى ويتغافل عن الواقع الذي يعيشه، ويعود نفسه على النظر إلى أمور ليس من حقه أن ينظر إليها ولا فيها. وبالفعل، فنحن ننسى الحديث النبوي الشريف في هذا الشأن، وننسى أن أولئك الذين يستحوذون على ما هو ليس من حقهم، سينتهي بهم الأمر إلى أن يذوبوا في زحمة الحياة، لأن ما بنفع الناس يمكث في الأرض. وذلك أهم شيء. أعترف أنني أرسلت بعض الدموع إكراما لتلك الراحلة العظيمة رغم بساطتها. واستذكرت أبناءها المصابين، وتساءلت عن الرحمة، وهل غابت عن سمائنا في هذه الجزائر. وكان لا بد لي من أن أكرر الحديث النبوي الشريف : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. ومع ذلك، خلصت إلى القول إنه من واجب الدولة أن تلتفت إلى أولئك الفقراء الضعاف من الناس ذلك لأنه من حقهم أن يعيشوا في بلدهم وسط الكرامة. فهل من المعقول أن يتدفق البترول وترتفع أسعاره في اسواق العالم، وهل من المعقول أن ترتفع أسعار الغاز، ولا تصب هذه الأرباح في جيوب الضعفاء والفقراء في هذا الوطن؟ وإلا فما معنى أن يكون لنا وطن وراية ولغة ودين وعلاقات اجتماعية وألف شيء وشيء إن نحن لم نحسن التصرف فيها جميعا، ولم نفكر في أولئك المحقورين الضعاف؟ اللهم إنك تعلم ما لا نعلم، فتقبل تلك المرأة الشجاعة في جنات الفردوس، يا أرحم الراحمين!