كل من سمع بالإصابات التي تعرض لها عمال مركب السيارات الصناعية بالرويبة يكون قد انتابه منذ الوهلة الأولى الشك حول الرواية التي تم تداولها، فالبعض ربما ظن أننا أمام حكاية مماثلة لتلك التي سمعنا بها منذ سنوات قليلة خلت حول »ثعبان الديار الخمسة« بالعاصمة، ذلك الثعبان الوهمي الذي ربما كان يخفي حكايات لا يعلم تفاصيلها إلا الله والقليل من الخلق الذين صنعوا الإشاعة وحبكوها جيدا، وزرعوها بين سكان العاصمة وباقي مناطق البلاد الأخرى، وكلما توسعت زادت غرابة وحتى الثعبان الوهمي زاد طولا ليتحول إلى وحش شبيه بتلك الوحوش التي نراها في أفلام الرعب وأفلام الخيال. لكن يبدو أن قصة ناموس الرويبة مختلفة تماما عن قصة ثعبان »الديار الخمسة«، فهي حقيقية وضحايا ما سمي في البداية بالحشرة الغريبة كثر، بل إن الأمر وصل حد دق ناقوس الخطر في كل مدينة الرويبة وما جاورها، وغلق المصنع وتسريح عماله إلى حين، مخافة من أن تمتد الإصابات إلى باقي العمال، وحتى يمنح الوقت الكافي للجهات المخولة القيام بتحقيق مخبري دقيق لمعرفة سر هذا الناموس الغريب الذي لم نسمع به من قبل إلا في أدغال إفريقيا وفي المناطق البعيدة التي تشتهر بالمستنقعات الراكدة. وإذا كانت المعطيات الأولية تبين بأن مصدر الخطر يكمن في واد يمر بمحاذاة ورشات المصنع التي شهدت اكبر عدد من الإصابات، فهذا يعني بأننا أمام حالة خطيرة، سببها تردي المحيط البيئي ليس لسكان الرويبة فحسب وإنما لكل سكان العاصمة بل إن الأمر يتعلق بظواهر سلبية يمكن تعميمها على مدن وحتى أرياف مختلف جهات الوطن الأخرى، فالوديان تحوّلت إلى مفرغات عمومية، وإلى قنوات لتصريف المياه المستعملة، وحتى المصانع لا تأبه لصحة المواطنين فتلقي بسمومها في العراء دون حسيب أو رقيب. دول العالم المتحضر التي تعني لها البيئة الكثير وتهتم لصحة مواطنيها تصرف الأموال الطائلة لإنشاء مراكز لتطهير المياه المستعملة حتى تصل إلى الأودية وهي نظيفة، وفي مثل هذه الدول تجبر المؤسسات كبيرة كانت أو صغيرة على إقامة مثل هذه الوحدات وإلا تعرضت للمساءلة القانونية، وكل من يجرؤ على تجاوز القوانين والضوابط الموضوعة لحماية البيئة ينزل به أشد العقاب، لأن حكومات هذه الدول تقوم بواجباتها اتجاه مواطنيها وتهتم لسلامتهم ولصحتهم وتضع البيئة على رأس سلم الأولويات في إستراتيجيتها التنموية، وأما عندنا فإن هذا النوع من التنمية لا وجود له إلا في الشعارات، فالبيئة هي في ذيل الاهتمامات، والمياه القذرة لا تسبح في الأودية فقط بل تعبر الأزقة ويتعايش معها المواطنون بشكل عادي داخل أحيائهم ولا احد يبالي لا الحكومة ولا المنتخبين المحليين ولا حتى تلك الجمعيات التي ليس لها هم آخر غير الحصول على الدعم المالي من خزائن الدولة. سيطوى ملف ناموس الرويبة كما طويت ملفات أخرى ربما أكثر خطورة دفع ثمنها المواطنون، ولن يتعرض أي مسؤول للمسائلة القانونية ولا حتى الإدارية، وسوف يقال لنا بأن المشكل قد انتهى بفضل فلان أوعلان، وسنسمع من دون شك وعودا كثيرة عن تطهير مياه الأودية ومحاربة أسراب الناموس التي هزمتنا بالفعل ولم نقدر بعد خمسين سنة من الاستقلال على إيجاد حل لها لا في عاصمتنا ولا في باقي المدن الأخرى، فالذين كلفوا بتدبير الشأن العام لا يهمهم الناموس ولا تهمهم أكوام الفضلات الملقاة على قارعة الطرقات ولا تهمهم الأودية القذرة وأحياء الصفيح التي أقامها تجار العقار على أطرافها ولا تهمهم صحة المواطنين والدليل على ذلك أنه لم نسمع أن الحرائق التي أتت على آلاف الهكتارات من غاباتنا قد أفسدت عليهم راحتهم وعطلتهم الصيفية.