لا تسألوا عن منهج سيرة الراحل الكبير الأستاذ مختار فيلالي، فهو مليء ومزدان، ومزدحم ومتشابك كأغصان الأيكة، أو كخيوط النسيج. وكيف لي أن أحيط جمعا وتدقيقا بكل محطات ومنعطفات حياته التي لم يترك منها أية دقيقة تضيع سدى، أو تهدر في غير طائل. فالرجل كان هو الوقت، والوقت عنده كان هو أغلى ما يملك. وقد كرس كل وقته في غرس فسائل الخير في كل بقعة من بقاع الجزائر. وهذا ما أتعب الأستاذ مختار فيلالي، وجعل المرض اللعين ينخر جسمه الضاوي بلا شفقة حتى أقعده عن الحركة، ومن ثمّ أخمد أنفاسه. ومع هذا العجز الذي اعترف به أمامكم، فإنني أريدكم أن تقروا أجزاءً ونتفا من منهج سيرة الأستاذ مختار فيلالي في التربية الصالحة التي ربى عليها خلفه، ذكورا وإناثا، حتى جعل منهم نعم الخلف لأجود وأصلح سلف. هذا هو الأستاذ مختار فيلالي الذي جمع أشياءه، وآثر الرحيل في هذا العام بعد أن رأى طيبين كثر من رجال وأعلام الجزائر قد حزموا أمتعتهم، وذهبوا في رحلاتهم الأخيرة طالبين الإقامة لواذ رب غفور رحيم، كالأستاذ المفكر عبد الحميد مهري، والرئيس الصبور أحمد بن بلة، والمجاهد الذي أفنى كل عمره يتعبد بقرآنه الشيخ القاضي محمد بوسام والرئيس النصوح والودود الشاذلي بن جديد. وهؤلاء كلهم من طينة الكبار الذين ألزموا أنفسهم العيش قريبا من الأرض؛ لأنهم يدركون إدراك المتيقنين أنهم سيعودن إليها، وستختلط مواد خلاياهم بعناصر حباتها طال الزمن أم قصر. كنا نأتي أستاذنا الفقيد مختار فيلالي بقلوب متخمة بالمتاعب، وألسنة لا تمل من الشكوى من سوء الحال وندرة الحيل. وكنا نجد فيه الأذن الصاغية، والعقل المستوعب. ولا يطول معه الجلوس حتى يفرغ شحناتنا بذكائه الحاد وبصيرته النفاذة، ويزيح من أمام أعيننا سواد وسخام الصوّر المزعجة. وكنا نشعر، في نهاية المطاف، أنه كان يفرغنا ثم يملأنا. كان الأستاذ مختار فيلالي يؤمن بتواصل الأجيال الذي لم يجعل منه شعارا وهميا للتنويم والمغالطة، وكان يشركنا في أفكاره وأعماله. وقد فتح أمام الشباب صفحات مجلة "التراث" للكتابة فيها غير مبال بموقف من أرادوا أن تكون وقفا عليهم حصرا وتقصيرا. لم يكن الأستاذ مختار فيلالي يرد على من سمحوا لأنفسهم بالإساءة إليه كتابة أو بالكلام المنقول، وبالإشارة والهمز واللمز والتنابز. وكان لسان حاله ينطق في صمت النساك المتعبدين كلما بلغته مذمة من أحد: اللهم أجعل إساءاتهم كفارات لذنوبي التي أعلمها والتي لا أعلمها. وكم من مرة، أبصرناه يضحك في هدوء الكبار من تصرف أولئك الذين لا يعرفون قدر الرجال، والغارقين في أوحال الإساءات المجانية. كانت مجالس الأستاذ مختار فيلالي هي بمثابة حلقات للعلم، وكنا نقصده راغبين في الاستماع إليه. وكانت الساعات في حضرته تمر سريعة كلمح البصر. وكان حتى للقهوة اللذيذة التي نرتشفها معه ذوقا متميزا. وكانت وصيته في آخر كل جلسة: أذكّركم أن المجالس أسرار. كانت البساطة ممرا معبدا يحثو فيه أستاذنا مختار فيلالي خطاه بتوأدة من دون استعراضية أو مغالاة أو تحقير للآخر، أو تشكيك في قدراته. وبذلك، استطاع أن يكسب قلوب الناس بالحسنى من بعد أن انتصر في معركة لجم الذات التى سقط على خشبة مسرحها الهزلي الكثيرون هلكى وصرعى. وكان زاده الوحيد الذي جمع منه الكثير هو إيمانه القوي والممدود الذي لا يعرف الحدود. كنا نحس بقرابة روحية ومعنوية وفكرية تجمعنا بالأستاذ مختار فيلالي، وكان هو يبادلنا هذا الإحساس، بل يزيدنا منه في سخاء، فيفرح لأفراحنا ويحزن لأحزاننا. كان الأستاذ مختار فيلالي هو المعلم الذي علمنا أروع الدروس التي فاتنا تعلمها في المدرسة. ومن فاته الجلوس متعلما في حلقات هذا المعلم الأديب، والمربي المثالي، فقد ضاع منه خير عميم لا يمكن استدراكه أو تعويضه. لم يعبأ الأستاذ مختار فيلالي، وهو على فراش المرض، بأولئك الذين انقطعوا عنه بالزيارة والتواصل لانشغالهم بسراب الآمال. ولكنه، لم يبخل عليهم بالنصيحة. فلما اتصل به أحدهم، نسي أن يواسيه، وفاتحه في موضوع شم منه رائحة التزلف في حماقة، رد عليه بثبات الحكماء: إلى متى تظلون صغارا، ألم تحن اللحظة التي تكبرون فيها قليلا؟؟.وهكذا، ظل الحكيم حكيما، ولم يقو المرض على إطفاء سراج عقله. كان الحكيم الأستاذ مختار فيلالي يقول في آخر أيامه: أنا مريض، وأخواي مريضان، وأختي طريحة الفراش. فمن منا ستشمله رحمة الرحمن الرحيم أولا؟؟. وكتب له أن يلتحق بأحد إخوته الذي سبقه إلى الدار الأخرى بيومين. تألمنا لمرض الأستاذ مختار فيلالي الأخير، وغزت قلوبنا الحسرة إشفاقا ورأفة بحاله. وكانت الآلام الحادة تمزق أوصاله، ولكنها لم تتمكن من تقويض صبره. وتألمنا أكثر لفراقه. من هو أسبق بأن يسمع كلمات العزاء في هذا المصاب الجلل؟. إننا نعزي وطننا الحبيب الذي فقد فيه ابنا بارا ووفيا ومجاهدا صابرا ومناضلا جسورا ومربيا صاحب فلسفة ومنهج، ونعزي أبناءه وبناته، وأهله وأحفاده، ونعزي فيه أنفسنا. وداعا أيها الأب الروحي العزيز، وسنظل على خطاك حتى نلقاك حاملين رسالتك في العقول وفي القلوب، ومستلهمين من مآثر حياتك ما يجدد عزائمنا. ندعو الله العلي القدير أن يحيط الفقيد العزيز الأستاذ مختار فيلالي بشآبيب رحماته الواسعة، وأن يجعل قبره الطاهر ملاذا دائما لملائكته البررة الكرام.