يتحدث بلسانه ويديه وعينيه ونبرة صوته الحادّة.. يتحدث عن قضايا سياسية شائكة ويشتم كلّ من ورد في معرض كلامه.. وفي النهاية يختم البرنامج بعبارات سوداء قاتمة لا تترك بصيص أمل على الإطلاق.. يطلق الكلام على عواهنه ويخترق حُجُب الغيب، أو هكذا يبدو من عباراته، ويجزم أن البلد لن ترى الخير أبدا.. ويختفي من الشاشة على هذه الصورة المرعبة. أيّ بلد، يا ترى، تتراكم فيه المشاكل إلى هذا الحدّ الذي يدفع مقدم برنامج تلفزيوني نحو هذا الجنون الذي يخرج عن كل أبجديات العمل الإعلامي ويجافي جميع أدبيات التواصل الإنساني.. هل يعيش هذا الصحفي في أفغانستان مثلا بحروبها شبه المتواصلة منذ أزيد من أربعين عاما ومشاكلها المزمنة منذ عدة قرون، أم تراه يطلّ علينا من الصومال التي تعاني نزاعات مريرة وانقسامات منذ عشرين عاما، أم من دولة مالي التي تقف في مفترق طرق بين داخل ممزقّ وغرب متربّص كالثعلب وجيران حيارى يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، هل يتحدث هذا الصحفي من سوريا الدماء والأشلاء، أم من العراق التائه بين العرب والفرس والكرد والترك، أم من اليمن الغارق في مشاكل الثورة والجنوب والشمال والحوثيين وبقايا نظام علي عبد الله صالح وجهود الأممالمتحدة وحسابات دول الجوار ومخططات الولاياتالمتحدة. الحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك.. فالمذيع يتحدث من بلد يعيش خيرات النيل وبركاته، وبين عدد من السكان يصل تعدادهم إلى قرابة التسعين مليون نسمة ويقفون جميعا على أهرام عالية من الموروث الديني والثقافي والحضاري، ووراءهم قرون طويلة من تجارب الحكم والتعايش والتقارب مع الأدنى والأقصى على حدّ سواء. إنّ هذا المذيع يمثل صنفا من الناس )لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب(، وقد ظهر بعد سقوط الرئيس المصري حسني مبارك باكيا شاكيا يذرف الدموع غزيرة ويعترف أمام الملأ أنّه كان مطيّة لفلان من رجال الأعمال الفاسدين، وذكره بالاسم والصفة، وغيره من بارونات المال والسياسة في مصر. لقد أظهر ندمه يومها، واعتقد الطيّبون أن الرجل في طريقه إلى اعتزال الشاشة حياء من نفسه، أو التحوّل إلى الجهة المقابلة حيث الإعلام الجادّ والمهني والرسالي، وحيث خدمة الوطن والدفاع عن مصالحه، وترسيخ القيم الفاضلة والمساعدة على صناعة الوعي الحضاري بين المواطنين. لكن.. عادت حليمة إلى عادتها القديمة.. وظهر المذيع، كما ظهر العديد من أمثاله وخاضوا حربا بلا هوادة خلال أزمة الدستور التي تشهدها مصر، وأثبتوا بجدارة أنهم في مستوى المهمّة القذرة التي آمنوا بها، أو كلّفتهم بها جهات معيّنة، لا يهمّ.. إن ما حدث، ويحدث في مصر، هو خلافات عادية جدا يمكن أن تحدث في أيّ بلد يشهد تحوّلا مصيريا، ويقطع المسافة الفاصلة بين محطة وأخرى.. وعبر الاستعانة ببعض الصبر والأناة ومن ثم تصفح كتب التاريخ الحديث والقديم؛ ندرك بسهولة حتمية ما يحدث في مصر، وأنّه نتائج طبيعية جدا لمقدمات معروفة جدّا، ويدركها كل من يتفحص الواقع المصري قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعدها. نعم إنها خلافات عادية جدّا، لكنّ أطرافا متوجّسة صنعت منها مشهدا مغايرا تماما، وهذه الأطراف هي بعض المتقوقعين على أنفسهم حيث لا يملكون القدرة على قبول الرأي الآخر، ومعهم ذلك العدد الكبير من يتامى نظام حسني مبارك حيث رجال السياسة والمال والأعمال والموظفين السامين والإعلاميين والقضاة، وغيرهم. إن من أبرز مظاهر نظام حسني مبارك، ومن على شاكلته من الأنظمة، ذلك التزاوج بين المال والسياسة، حيث سعت السلطة لأجل المال، وسعى المال لأجل السلطة عبر خطوط متوازية، وفي النهاية تجلّى ذلك )الخليط الكريه( من المصالح الذاتية والحزبية والعائلية، واعتقد ذلك المزيج أنه خارج إطار الزمن والسنن الكونية، ولن يطاله شيء من عوادي الدهر وتقلباته، وهكذا راح يقتسم الدولة كما لو كانت إرثا شرعيا لا يتمارى فيه اثنان. لقد صنع الفساد في مصر إمبراطوريات اقتصادية وأخرى إعلامية، وعندما سقطت الرؤوس المرفوعة أمام الملأ، ظلت وراءها رؤوس أخرى تملك الكثير من المفاتيح والأدوات، وحاولت منذ البداية أن تنحني للعواصف حتى تمرّ ثم تواصل السير، وهكذا حافظت على كياناتها وأموالها ومواقعها تقريبا إلى أن وجد الجميع أنفسهم وجها لوجه استعدادا للمواجهة، بعد أن صارت قدرا لا مفرّ منه.. وكان الدستور الجديد هو القطرة التي أفاضت الكأس. إنّ ما يحدث في مصر اليوم هو ضجيج تصنعه نخبة محدودة تملك أصواتا عالية عبر ترسانة الأسلحة الإعلامية المتطورة التي بحوزتها، وتحاول من خلال ذلك صناعة شعب وهمي بديل عبر خروج الآلاف، أو حتى مئات الآلاف إلى الشوارع.. لأنهم لا يمثلون أيّ ثقل بين شعب يقارب تعداده التسعين مليون إنسان.. نعم يخادعون أنفسهم فقط.. ولو كانوا غير ذلك لما خافوا من نتائج الصندوق. المشكلة في مصر ليست مع الرئيس محمد مرسي، والإخوان المسلمين.. لكنها مع أيّ وضع جديد يسعى إلى قلب المعادلة رأسا على عقب، ويعمل على إرساء قواعد جديدة تحرم اللوبيات القديمة امتيازاتها التي تعتقد أنها حقّ مشروع لا ينبغي المساس به بأي حال من الأحوال، بل ترى نفسها في مراتب أعلى من المواطنين، وكيف لا وهي التي أهدرت حقوقهم المادية والمعنوية وصادرت حرياتهم سنين طويلة. وعودة إلى الصحفيين المهرّجين... وعبر مراجعة سريعة في تاريخهم المهني وسيرهم الذاتية؛ ندرك مقدار الهوّة بينهم وبين الإعلام الحقيقي الذي يحترم الجمهور ويحرص على تقديم المعلومات الصحيحة ويتحمّل مسؤولياته الوطنية عند الأزمات والمحن.