رحل هيغو تشافيز، رحل المشاكس الذي يكره الثنائي جورج وولكر بوش الذي يرى فيه صورة الشيطان وكونداليزا رايس التي تثير أعصابه... ● خطاباته وطريقة سخريته من خصومه وعنفوانه الثوري الذي يمزجه بالذكاء وبالعفوية وبالرومنطقية يجعلني أتذكر مثيلا له في أقصى آسيا كما هو في أقصى أمريكا الجنوبية، إنه يشبه أحمد سوكارنو أب استقلال أندونيسيا، كما هو أب عنفوان فنزويلا... الرجل الذي أحبته كل شعوب العالم، كان بالنسبة لأمريكا اللاتينية، سيمون بوليفار الثاني، فقد جعل من فنزويلا التي كانت قبله عبارة عن مجرد خزان ومنصات عائمة للنفط ليس فقط دولة تثير إعجاب العالم، ولكن قلعة استطاعت أن تتجاوز كوبا في الخروج عن ''مبدأ مونرو'' وتتحدى سطوة واشنطن في جعل كل أمريكا الجنوبية صديقتها الخلفية. رحل معبود الفقراء ابن الفقير الذي تحدى أكثر قوة عسكرية في الكون تحدى الولاياتالمتحدة في عز أيام محافظيها الجدد وأداتهم جورج بوش الذي كان دركي العالم، وحين كان كل العالم يتجنب الإحتكاك به، كان تشافيز يصطدم به ليس مغامرة أو مقامرة، إنما عن وعي أن بلاده تمتلك المؤهلات التي تمكنها من سلوك سياسة وطنية إن لا تعجب واشنطن فهي ترضي الفنزوليين أولئك الذين احتضنوا أفكاره.. باستثناء قلة من الحكومات في كل أمريكا الجنوبية، فإن تأثير شافيز في منطقة سيمون بوليفار أولدت رياح تغيير وعن طريق صناديق الإنتخاب في أغلب بلدان النصف الجنوبي لقارة أمريكا وأوصلت إلى أعلى مواقع السلطة هناك شخصيات من الأصل العرقي للسكان وليس من سلالات المهاجرين الأوروبيين، والرجل الذي طرد سفير إسرائيل من كراكاس في أوج العدوان على غزة، حتى وصف برئيس العرب هو نفسه الذي أطلق إسم المقاوم الجزائري الأمير عبد القادر على إحدى الساحات العمومية في كراكاس. هو ثوري وسياسي محنك، وهو أيضا خطيب من الطراز الأول، يعرف كيف يكسب قلوب الجماهير في بلده وكل بلدان أمريكا الجنوبية ويعتبره الفقراء في الأحياء القصديرية والطوبية والعشوائية ليس فقط في فنزويلا، إنما في كامل المعمورة ممثلهم والمدافع الحقيقي عن حقهم الإستفادة من عائدات الثروة في مجال الإسكان والصحة والتعليم والرفاهية وهي أساس اهتمامات الرجل الذي إن يبكيه الملايين في فنزويلا وفي باقي أمريكا الجنوبية وفي فلسطين وفي كل بقعة فيها القهر والإستغلال والإضطهاد والفقر.. حاول الرجل كسر طوق '' الإمبريالية'' على المستوى الإقتصادي وفتح ثغرة في ذلك ولكن نجاحاته كانت أكثر على المستوى السياسي والديبلوماسي فأقام علاقات متينة ليس فقط مع كوبا إنما مع إيران، ومع ليبيا في عهد القذافي ومع روسيا والصين ووقع عقود تسلح مع موسكو، كما بكين وأجرت قواته البحرية مناورات مشتركة مع البحرية الروسية في منطقة كانت الولاياتالمتحدة تعتبرها دوما مجال نفوذها. في عهد فكرة النظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي كانت الجزائر رائدة في الدعوة إليه إبان سبعينات القرن الماضي لكسبت تلك الدعوة لاعبا جديدا مؤثرا في المنطقة نظرا للإمكانيات النفطية الهائلة التي تحتوي عليها فنزويلا التي كانت تحت هيمنة الشركات الاحتكارية الأمريكية أساسا. تشافيز الذي تعرض خلال رئاسته الأولى بداية القرن لإزاحة بشبه انقلاب كان لواشنطن دورا رئيسيا فيه تضاعف وعي بالخطر الذي تشكله واشنطن على توجهاته التحررية كما تأكد له أن هذا التوجه يشكل بالفعل تهديدا لمصالحها الاحتكارية وترسخت قناعاته تلك بالإضراب في قطاع البترول الذي شكل تهديدا خطيرا لحكمه سنة 2002 . أعاد ذلك الإضراب لذهنه ما حدث في الشيلي ابان حكم سلفادور ألندي بداية السبعينات القرن الماضي، وأكيد أن الرجل قارن بين دور شركة الاتصالات الأمريكية في الشيلي: سI.T.Tس وبين اكسون موبيل وتيكساكو النفطيتين في بلاده، وتبين له نفس الدور ونفس فكرة الهيمنة ومن هنا كان توجهه لأن تستعيد فنزويلا حق القرار للتصرف في ثرواتها النفطية، متذكرا مصير ''ألندي'' الذي نظم كيسنجر انقلابا دمويا ضد نظامه وإذا كان كيسنجر غير موجود في البيت الأبيض فإن شبيهته كونداليزارايس كانت تقود السياسة الخارجية لواشنطن، وكلاهما من الصقور الذين لا يتوانيان عن القيام بأي شيء من أجل حماية مصالح الولاياتالمتحدة. وبعد.. رحل الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس حسب تعبير الشاعر المتنبي.. واتفق الكل، الأصدقاء والخصوم، على مناقب وخصال رئيس كان أكثر التصاقا بالجماهير التي احتضنته، وكان يتفاعل معها بشكل عجيب، رئيس كانت ملامحه الطفولية تجعله محل ثقة البسطاء في كل مكان، توحي بالأمل في عالم خال من الاستعباد والهيمنة والاحتلال. قد يرحل تشافيز ويغيب عن الأعين، لكنه سكن القلوب وأعماق الوجدان وخلف مآثر من المستحيل محوها...