من الصعب أن يتحدث المرء عن قامة كبيرة في المواقف وقامة كبيرة في الأخلاق و قامة كبيرة في القيم و الأفكار والمواقف النضالية والإنسانية العالية مثل الراحل الكبير سي عبد الحميد مهري رحمه الله ، فقد كان الرجل عملاقا في كل شيء و خصوصا في وطنيته الاستباقية الصادقة التي ظهرت مبكرا و هو ما يزال بعد في مقتبل العمر ، فقد نهل من حزب الشعب الأفكار الوطنية منذ أن كان عمره لا يتجاوز السادسة عشرة حيث أصبح مناضلا في هذا الحزب ثم في حركة انتصار الحريات الديمقراطية ، كما ظهر عليه النبوغ الصحفي مبكرا إذ ساهم في تحرير جريدة المنار و صوت الجزائر وزُج به في السجن مرات عديدة لمواقفه الوطنية قبل اندلاع ثورة أول نوفمبر إلى جانب العديد من رجالات الحركة الوطنية قبل أن يصبح مع اندلاع الثورة أحد أبرز القيادات السياسية و الفكرية لجبهة التحرير ووزيرا في الحكومة المؤقتة الأولى و الثانية كما مثل الجبهة في عدة عواصم عربية ، بحيث أن العديد ممن كانوا يحسبون أنفسهم كبارا ، يظهرون صغارا أمامه، حتى لو كانوا في سنه أو أعلى منه في درجة المسؤولية . كان الراحل سي مهري رجلا يخلق الحدث في أي لقاء يحضره ، فلو أنه جلس في آخر صف في أية قاعة حتى دون أن يتكلم فإنه يخلق مع ذلك الحدث حتى بصمته الذي كان يقلق الكثير ، أما إذا تكلم سي عبد الحميد فإن من كان فوق المنصة و يتوهم أنه صاحب الحدث فإنه يصبح أمام الراحل الكبير سي مهري لا حدث و خصوصا إزاء كلامه النافذ كالصاروخ إلى العقل و الروح. سألت الرجل التسعيني و المثقف المشاكس و الزيتوني الموسوعي التكوين الصديق الطاهر بن عائشة هذا الذي يبدو للبعض يساريا و لكنه يتحول إلى مدافع شرس عن الإسلام و العروبة حينما يخدش فيها البعض أقول سألته عن سي عبد الحميد فقال عبارة لخصت بصدق قيمة مهري العظيم ، قال الرجل بكل تواضع في حق سي مهري و هو الذي كان من عرفوه في الزيتونة : رغم أنني سبقت سي عبد الحميد بعام إلى الزيتونة للدراسة ،و رغم أننا كنا من جيل واحد فإن مهري كان يظهر للجميع بأنه أكبر منا ببعد نظره و عمق أفكاره ووطنيته الصادقة ، بل وأكبر منا عمقا و طرحا للمواضيع المثارة بما فيها السياسة التي كان سباقا فيها منا عارفا بخباياها و هو في تلك المرحلة المبكرة من الشباب و حيث لم يكن بعضنا قد نضج بعد . ثم إن سي مهري يضيف بن عائشة : كان قيمة فكرية وأخلاقية عالية و قيمة وطنية كبيرة و قيمة دينية نادرة دون تعصب أو تزمت أو جمود. هذا ما قاله بن عائشة الذي اعتبره بحق شيخ المجادلين الجزائريين بدون منازع بحق سي مهري. منذ عرفتُ سي مهري في سبعينيات القرن الماضي و سي عبد الحميد هو نفس الرجلالموقف و الانسان، فلئن كان يتطور باستمرار في فكره و كان يجدد خطابه حتى يعيش عصره و ما بعد عصره دون أن ينسلخ من روحه أو يتنكر للأخلاق التي جبل عليها فإنه ظل وفيا لقيم شعبه و للتراث الذي نهل منه و للمحيط الذي خرج من صلبه ، بل و لبيان أول نوفمبر . سألت مجموعة من المناضلين و الإطارات الذين عملوا معه و تحت قيادته في مختلف المواقع النضالية و التعليمية و التربوية و حتى في الأجهزة التنفيذية للدولة فلم أجد واحدا منهم بما فيهم أولئك الذين أساؤوا له في تسعينيات القرن الماضي بمهاز و بإشارات فوقية عن سي عبد الحميد فلم أجد أحدا يطعن في قيمة الرجل الوطنية و الأخلاقية و الفكرية و النضالية . من سمات هذا الرجل أنه جبل على التواضع الكبير الذي هو من شيم وأخلاق الكبار . فمن خلال ما أعرف عن سي عبد الحميد أنك إذا اتصلت به هاتفيا أو بطريقة مباشرة و أنا شاهد على هذا أن الرجل لا يصدك إن قصدته حتى في بيته و لا يمتنع من الحديث إليك مسؤولا كنت أو مواطنا بسيطا . إن وجدت سي عبد الحميد قرب مكتبه فهو يأخذك دونما تردد أو موعد مسبق لتجلس إليه و لتشرب معه الشاي و القهوة و يحدثك حديث المتواضع المتشبع بالأخلاق و القيم ، و إن وجدته خارج المكتب يتأهب لموعد أو للمغادرة فإنه لا يركب سيارته إطلاقا بل يفضل أن يكون آخر من يغادر المكان الذي تكون فيه أو بالقرب منه. إن هاتفته سواء كان داخل الوطن أو خارجه يجيبك دونما تردد ، وإن كان في اجتماع أو يحاضر أو يتكلم فإنه يتصل بك لاحقا معتذرا بعباراته اللطيفة الرقيقة التي تجعلك تعرف معدن الرجل و أخلاقه ، وإن كنت مرتبطا معه بصداقة فهو يسبقك دوما إلى التهنئة في كل المناسبات والأعياد عبر الهاتف و حتى عبر الرسائل الهاتفية القصيرة التي يتفنن فيها سي عبد الحميد في حين أن بعض المسؤولين عندنا يعجزون حتى عن تشغيل الهاتف النقال فما بالك بالكمبيوتر.. و يؤكد محيط عائلته أن سي عبد الحميد كان ديمقراطيا حتى النخاع مع أبنائه، إذ لا يفرض عليهم تخصصا بعينه ، ولا يطلب منهم معدلا محددا لنقاط في هذ الامتحان أو ذاك ،و لكنهم كان يوصيهم بالتحصيل الجيد و اكتساب العلم و المعارف. أذكر أنني دعوته مرة لحضور حفل زفاف ابنتي فأرسل لي رحمه الله وكان ذلك من تواضعه الكبير رسالة لطيفة عبر الهاتف تعبر عن معدن الرجل ، كان من بين ما قاله لي : لقد خانني المرض أنا والزوجة من حضور زفاف ابنة صديق عزيز على القلب. كان يسألني كلما هاتفته أو هاتفني أو كلما التقيته عن الأبناء سؤال الأب و الصديق العزيز ، و أذكر أنه لما سافر منذ حوالي ثلاثة أعوام للعاصمة القطرية الدوحة أخذ معه عراجين تمر . وعندما ذهب لمقر قناة الجزيرة كان يحمل معه ذلك التمر ظنا منه أنه سيجد ابنتي فيروز تعمل ذلك اليوم ، و لما لم يجدها ترك لها ذلك التمر مع رسالة خطية لطيفة . هذا هو سي عبد الحميد بفكره و بأخلاقه و بكرمه بمواقفه التي لا تعرف المساومة و لا أنصاف الحلول . كان سي عبد الحميد ابن عصره بل و سابقا لعصره ، فرغم أن التكنولوجيا أدركته في سن متأخرة فإنه كان يتعامل معها تعامل الشباب الطموح الباحث عن الجديد باستمرار. عندما طلبت منه في 2008 أن يكتب لي تقديما لكتابيالرجل الذي رفض الوزارة لبى الدعوة مشكورا ، و عندما أنهى كتابة ذلك التقديم الجميل ذهبت إليه في بيته لتسلم الموضوع الذي نسخه في قرص مضغوط. واذكر أنني لما حاولت فتح ذلك القرص ولم اتمكن من ذلك اتصلت بسي عبد الحميد باحتشام ،مقترحا عليه أن أعود لبيته متى سمحت له الظروف لأخذ الموضوع على قرص آخر ، لكن سي عبد الحميد المتحكم في التكنولوجيات طلب مني على الفور بريدي الاليكتروني وأرسل لي حينها الموضوع . وقد ذكر لي مجموعة من الصحفيين الذين عملوا تحت قيادته في صحافة حزب جبهة التحرير الوطني عندما كان أمينا عاما للحزب و من بينهم الصديقان النذير بولقرون المدير العام لجريدة صوت الأحرار و الطاهر بوعنيقة المدير العام للمجاهد الأسبوعي أن سي عبد الحميد كان لا يتدخل كثيرا في العمل الصحفي رغم الخلفية الصحفية الكبيرة للرجل ، فقد كان يكتفي بدور الملاحظ المسؤول بدلا من القيام بدور الرقيب الذي كان يمارسه بعض المسؤولين في تلك الفترة. و كان من بين مزاياه وسماته رحمه الله أنك إذا اكتسبت صداقته فقد اكتسبت معها ثقته الكبيرة . لكن سي عبد الحميد مع هذا لا تكون صديقه لمصلحة مادية او غير مادية أو لحاجة عابرة ، بل إن صديقه هو من يرتبط معه في القيم و المبادئ و الاخلاق و حب الوطن و القناعات و الأفكار ، أما أصدقاء المناسبات والمصالح فلا وجود لهم مع سي عبد الحميد و لا صداقة له معهم إطلاقا فأنت مجبر أن تكسب صداقة سي عبد الحميد إن كانت صفاتك هي تلك الصفات الجميلة التي جُبل عليها الرجل ، أما إذا كانت صفاتك من صفات الانتفاعيين الانتهازيين فإنه لا صداقة لك مع الرجل إطلاقا لهذا فإن سي عبد الحميد الهادئ بطبعه الرزين الرصين الثابت على الموقف المبدئ و المتطور في أفكاره تجده يتحول إلى رجل مشاكس شرس يقذف خصمه بكلمات دقيقة تصيبه بمقتل في العمق كلما تعلق الأمر بقضايا جوهرية تمس بثوابت الامة و بالوطن و بأدبيات جبهة التحرير الوطني و بالقضايا العربية والإنسانية عموما مازلت إلى اليوم أذكر كيف عارض الراحل مهري الرئيس الراحل هواري بومدين بحدة أثناء الندوة الوطنية للتعريب التي جرت فعالياتها عام 1975 بقصر الأمم تجاه ما اعتبره المرحوم مهري تراجعا عن التعريب وضربا للمنظومة التربوية من طرف بعض المسؤولين الذين كانوا قد بدأوا في التموقع خلال تلك الفترة ثم كيف أفحم المرحوم مهري أحد الوزراء السابقين عندما سأله عن أسباب استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في 1992 رغم علاقته بالرئيس ،فرد عليه بكل شدة عبر تلك المقولة الشهيرة التي تقال للشخص الذي يطعن في صديقه بقوله له: حتى أنت يا بروتس نص المداخلة التي ألقاها الأستاذ محمد بوعزارةفي الندوة التاريخية الفكرية حول المرحوم الأستاذ عبد الحميد مهري بقصر الثقافة لمدينة سكيكدة يوم الأربعاء ال 8 ماي 2013 . ¯ يتبع