"اشتدي أزمة تنفرجي".. لعل هذا هو أبلغ توصيف لمآل الأزمة اللبنانية،بعد التطور العاصف والمتفجر الذي سبق اجتماع الدوحة، والذي توصل في زمن قياسي إلى حل عقدة الشغور الرئاسي المستعصية، وتطمين المعارضة على نصيبها في الثلث الضامن في التشكيلة الحكومية المقبلة، والسماح للأكثرية البرلمانية بتمرير التعديلات المقترحة على القانون الانتخابي. كان تتابع الأحداث أشبه بحبكة بوليسية في مسلسل تلفزيوني.... ففي بداية شهر ماي الجاري (2008) أعلن حزب الله عن إحباط مؤامرة كبرى شاركت فيها أطراف دولية ولبنانية لتصفية زعيم الحزب السيد حسن نصر الله، وقطع الرأس السياسي للحزب، بعد أن قطع رأسه العسكري في الأيام السابقة بدمشق، باغتيال القائد عماد مغنية ! وبعد هذا الإعلان ردت الحكومة اللبنانية باتخاذ قرارين في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء السادس ماي 2008، يتمثل الأول في إقالة مدير أمن مطار بيروت المقرب من حزب الله، ويتمثل الثاني في الأمر بإزالة شبكة الاتصالات التي أقامها حزب الله دون موافقة الحكومة. هذان القراران رد عليهما حزب الله مباشرة باقتحام بيروتالغربية عسكريا، وهي المدينة التي كانت تشكل المعقل السني وحصن " تيار المستقبل" الذي يتزعمه النائب سعد الحريري وينتمي إليه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. أعاد الحسم العسكري السريع لحزب الله في بيروتالغربية، خلط الأوراق وفرض توازنات جديدة بين فرقاء الساحة اللبنانية. رد الفعل الفاتر من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا، والذي كان اقل شأنا بكثير من رد الفعل الإعلامي للسعودية ومصر، وهم الحلفاء الرئيسيون لقوى الأكثرية اللبنانية أو فريق 14 آذار ، على اقتحام حزب الله لبيروتالغربية، جعل الحذر والخوف من التصعيد يسيطر على الساحة، مما أدى إلى تشكل لحظة تبريد الأوضاع، التقطت خلالها دولة قطر التي أصبحت تقوم بدور محوري في الساحة الدبلوماسية العربية، إشارة بحث فرقاء الأزمة عن مخرج مشرف من الأزمة ، فقامت بدور الوساطة وإعادة تفعيل المبادرة العربية التي سبق للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بحثها طوال شهور مع زعماء لبنان، وهكذا تم إنضاج حل يعتمد على إعطاء كل طرف حصة من المكاسب السياسية على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" والاتفاق على ترحيل المشاكل العويصة والخلافات الأساسية بين الفرقاء إلى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة انتقالية أو ربما إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية التي ستجري في سنة 2009 وفق قانون انتخابي جديد والتي ستحدد الحجم السياسي لكل تشكيلة أو تيار سياسي على الساحة اللبنانية . وهكذا تضمن اتفاق الدوحة التوافق على اختيار العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لبنانية من 30 وزيرا توزع كالتالي:16 للأكثرية و 11 للمعارضة و 3 للرئيس، وبذلك حصلت المعارضة على الثلث الضامن( أو حصة 10 +1 ) التي كانت تطالب بها في جولات الحوار السابقة. ونص الاتفاق أيضا على اعتماد القضاء طبقا لقانون 1960 كدائرة انتخابية بحيث يبقى قضاء (مرجعيون وحصيبا) دائرة واحدة، وكذلك قطاع (الهرمل والبقاع الغربي راشية)، وتم تقسيم بيروت إلى ثلاث دوائرانتخابية. وهكذا بعد حوالي سنتين من بروز مؤشرات الأزمة باستقالة وزراء المعارضة من حكومة فؤاد السينيورة، وبعد حوالي ستة شهور من شغور المنصب الرئاسي الذي عاشه لبنان مع نهاية عهدة الرئيس السابق العماد إميل لحود، عاد الأمل والتفاؤل إلى أوساط اللبنانيين بعد انتخاب الرئيس الجديد التوافقي العماد ميشال سليمان يوم الأحد 25 ماي 2008 وسط حضور عربي ودولي وترحيب كامل من المجتمع الدولي. وإذا كانت وسائل الإعلام قد ركزت على الدور القطري ،والقيادة القطرية تستحق ،بلا شك، الثناء والتنويه عن مجهوداتها في هذه القضية، إلا أن ذلك يجب ألا يغطي على الجهد العربي المشترك الذي قامت به اللجنة الوزارية العربية المتشكلة من: قطر والجزائر والمغرب والأردن واليمن والإمارات وسلطنة عمان والبحرين وجيبوتي، وتوصلت إلى ذلك الانجاز العربي الكبير في الدوحة وهو بلا شك نجاح يضاف إلى النجاح الذي حققته المملكة العربية السعودية بإشرافها في العام الماضي على توقيع الاتفاق بين حركة حماس وحركة فتح. ونسأل الله العلي القدير ألا يكون مصير اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين، كمصير اتفاق مكة بين حركة فتح وحركة حماس، حتى لا يقول العالم عنا بأن عمر الاتفاقات التي ينجزها العرب لا يتجاوز المدة اللازمة لجفاف الحبر الذي كتبت به! ولا ريب في أن المشاكل التي مازالت عالقة في الملف اللبناني للتوصل إلى اتفاق نهائي هي أكبر من تلك التي تم التوافق عليها في اتفاق الدوحة، فما زال سلاح المقاومة أو سلاح حزب الله، موضوع خلاف بين الفرقاء اللبنانيين، وإذا كان هذا السلاح يحظى بالتقدير والعرفان من جماهير الأمة العربية والإسلامية لأنه شكل العامل الحاسم في تحرير جنوب لبنان من المحتل الصهيوني سنة 2000، وكان عنوان العز الانتصار على الهمجية الصهيونية خلال عدوانها على لبنان في صيف 2006، خصوصا وأن الاحتفالات بالذكرى الثامنة لطرد الإسرائيليين من جنوب لبنان، قد تزامنت هذا العام مع فرحة اللبنانيين بانتخاب العماد ميشال سليمان في منصب رئيس الجمهورية بعد أزمة الشغور الرئاسي الطويلة، فإن سيطرة حزب الله على بيروتالغربية بعد أزمة صدور قراري حكومة السنيورة جعل قطاعا هاما من أبناء الطائفة السنية في لبنان، والذين كانوا حلفاء حزب الله قد بدؤوا يشعرون بالتوجس من إقدام حزب الله على استعمال سلاح المقاومة لتصفية حسابات داخلية. ولعل المفارقة الكبيرة أن موقف حزب الله أصبح في بيروتالغربية أكثر هشاشة بعد هجومه العسكري عليها، مما كان عليه من قبل، والسبب أن سكان بيروتالغربية شعروا بحرقة الإهانة ومرارة الهزيمة، وهذا الشعور يتحول في لبنان بسرعة إلى أخطر من بركان صامت!