قديما قيل : إذا قدر للشرق والغرب أن يلتقيا، فإن ذلك سيكون تحت سماء تركيا " للتدليل على المكانة والأهمية التي تحظى بها تركيا إقليميا ودوليا. وبالقياس يمكن القول : ز إذا قدر لبعض الدول العربية أن تتطور فإن ذلك يكون بفضل تركيا". ومنذ 10 سنوات أظهرت تركيا توجها نحو الوطن العربي باهتمامها بالقضايا والمشاكل والأزمات العربية بهدف إيجاد دور إقليمي لها على الساحة العربية من جهة ، والعمل على خلق التوازن بينها وبين إيران التي تعمل على خلق النفوذ الاقتصادي والمذهبي في الوطن العربي من جهة أخرى. وقد استغلت تركيا حدثين هامين لإعادة تسويق نفسها سياسيا في الوطن العربي الحدث الأول هو الحرب الإسرائيلية على غزة عام ,2009 حيث لعب أردوغان دورا سياسيا بارزا عرف أوجّه عندما قاطع جلسة بالمؤتمر العالمي بدافوس بسبب تعنت رئيس إسرائيل شيمون بيريز. وتمثل الحدث في أسطول الحرية التركي الذي كان متوجها نحو غزة لكسر الحصار الإسرائيلي واعتداء الجنود الإسرائيليين عليه. وإلى جانب هذين الحدثين الكبيرين، اتخذت تركيا مواقف مؤيدة لأحداث الربيع العربي، حيث ألقى رجب طيب أردوغان عدة خطابات دعا فيها رؤساء الدول إلى التنحي عن الحكم، مثلما فعله مع الرئيس المصري حسني مبارك والليبي معمر القذافي والسوري بشار الأسد. وكأن المنطقة العربية اليوم قد عادت إلى القرن ال 16 عندما كانت هناك الدولة الصفوية الفارسية والدولة العثمانية، ثم تغلب العثمانيون على الصفويين في معركة تاريخية هي »غالدارين« التي انتصر فيها السلطان سليم الأول على إسماعيل الصفوي، وانفردت الدولة العثمانية بعدها بالهيمنة على الوضع في المنطقة، إلى غاية القرن ال 19 وبداية مرحلة الإحتلالات الغربية للمنطقة. وبعد سقوط الخلافة العثمانية وميلاد جمهورية تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 انتقلت العاصمة من اسطنبول إلى أنقرة ، وتوجهت تركيا الجديدة نحو أوروبا تاركة الشرق ورائها للاستعمار الغربي. الحاصل أن الغرب لحد اليوم ظل رافضا لانضمام تركيا إلى اتحاده رغم التطور التركي المبهر في المجال السياسي وخاصة الاقتصادي فهي تحتل المركز ال 16 ضمن أحسن اقتصاديات العالم. ويبدو أن تركيا اليوم مع تراجع القومية العربية أمام الفارسية، تريد أن تلعب نفس الدور الذي لعبته في القرن ال ,16 فهي تشعر بالمسؤولية التاريخية خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي، وترغب في مقابلة الشرق بوجهها بدل إعطائه ظهرها ، تحقيقا لمصالحها الحيوية أولا، وربما أخيرا، ويتعيّن على دول الشرق ومنها الجزائر استغلال هذه العودة التركية. ففي السنوات العشرة الأخيرة ارتفعت الواردات العربية من تركيا بنحو 220 في المئة، بينما بلغت الصادرات نحو 51 بالمئة، وقد اقتنع المسؤولون العرب بأهمية الشراكة مع تركيا التي يحقق اقتصادها معدل نمو بنحو 10 بالمئة. والأهم بالنسبة لتركيا هو أنها لا ترغب في جعل البلدان العربية سوقا لمنتجاتها فقط، بل ترغب في شراكة اقتصادية حقيقية من خلال تنويع العلاقات الاستثمارية أيضا. أما بالنسبة لدول الخليج فإن تركيا قد تلعب الدور الذي لعبته في القرن ال 15 بعد تغوّل الدولة الصفوية، فبعد تراجع مكانة العراق منذ 1990 وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد عام 2003 وزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، قد يشكل الأتراك عامل توازن في منطقة الخليج على الأقل. وتتقاطع الرغبة التركية في القيام بهذا الدور، مع الرغبة الأوروبية والأمريكية في تحجيم الدور الإيراني في منطقة الخليج العربي. الوضع الآن أن إسرائيل وإيران لا تسمحان نظريا على الأقل بعودة تركيا إلى خشبة المسرح العربي، وأن هناك قوى سياسية داخلية تنظر لتركيا على أنها دولة استعمارية كغيرها من الدول الغربية. وربما هذا ما يفسر وجود إيرانيين ضمن المتظاهرين في الأحداث التركية حاليا، وربما هذا ما يفسر أيضا الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية كإشارة للدول العربية على أن تركيا ليست هي الدولة التي تستطيع حماية الدول العربية وقيادتها. ويبدو أن الجزائر في وضع أريح نسبيا مقارنة بغيرها من الدول العربية، فهي بعيدة عن الملف الإسرائيلي وبعيدة عن النفوذ الإيراني، كما أن التواجد العثماني في الجزائر طيلة ثلاثة قرون قابل للهضم سياسيا، وبالتالي لديها القابلية للتعامل مع تركيا الجديدة. فبخصوص التاريخ، يقر كثير من المؤرخين أن الدولة الزيانية هي التي استنجدت بالدولة العثمانية لإنقاذها من الهجمات الصليبية الأوروبية القادمة من إسبانيا والبرتغال والتي كانت تستهدف المدن الجزائرية الساحلية، وبحكم الأخوة في الدين كانت الدولة العثمانية حينها هي المنقذ. وبقوتها الاقتصادية الصاعدة تستطيع تركيا تقديم البديل للجزائر ، لأن تنويع العلاقات الاقتصادية مع مختلف البلدان يعتبر واحدا من آليات الحفاظ على السيادة الوطنية. والأتراك لديهم الكثير من المجالات التي يمكن أن يقدموا فها الخبرة للجزائر مثل قطاع البناء والصناعات الصغيرة والمتوسطة والسياحة وغيرها من مختلف القطاعات. وبدون شك فإن الأتراك لديهم ما يستفيدون من الجزائر، مثل ضمان الاستثمارات والتبادل التجاري وضمان التزود بالغاز الجزائري حيث تحتل الجزائر المرتبة الرابعة في تزويد تركيا بالغاز، وفضلا عن ذلك تسعى تركيا إلى جلب السائح الجزائري من خلال العمل على إلغاء التأشيرة على الجزائريين وزيادة عدد الرحلات الجوية إلى ثلاث رحلات يومية بدل رحلة واحدة. والحقيقة أن الجزائر قد تمثل بديلا استراتيجيا لتركيا في مجال الغاز، حيث رغم العلاقات التجارية الممتازة بين تركيا وإيران التي تفوق 10 مليار دولار سنويا، ورغم ضخ نحوم 40 مليار متر مكعب من الغاز الإيراني إلى تركيا عبر الأنابيب، فإن تركيا تظل متخوفة من احتمال توجيه ضربة عسكرية لطهران بسبب برنامجها النووي ما يؤثر على تموينها بالغاز الإيراني. إن العلاقات الإستراتيجية التي ترغب الجزائر في إقامتها مع تركيا، هي علاقات مبنية على ثلاثة أسس على الأقل: التاريخ والجغرافيا والاقتصاد. فالتاريخ المشترك يساعد على بناء علاقات قائمة على الاحترام والتفاهم، ذلك أن علاقات الجزائر مع الأتراك لا ترجع فقط إلى عام 1516 بل إلى ما قبل سقوط غرناطة عام ,1492 ثم لعب البحارة الأتراك دورا في إنقاذ المسلمين الهاربين من غرناطة وإيصالهم إلى شمال إفريقيا. أما الجغرافيا، فتاريخيا خلال العهد العثماني كانت المنطقة العربية وتركيا منطقة واحدة، ويعمل الأتراك على تحريك هذه النزعة من جديد، لتمتد من موريتانيا إلى أنقرة. ثم يأتي العامل الاقتصادي لتستفيد تركيا من الثروات العربية مثل الغاز الجزائري، ويستفيد العرب من الخبرة التركية. فالاقتصاد التركي اليوم يحتل المركز ال 16 عالميا، وتحقق أنقرة ناتجا داخليا يفوق تريليون دولار أي يفوق 1000 مليار دولار سنويا. والأهم في المواضيع المثارة، هو أن التغيرات الجيواستراتيجية التي يشهدها العالم، والتي تتميز بالضعف والهوان العربي المتعدد الأبعاد والأوجه، تجعل من العثمانيين الجدد الملجأ الآمن مقارنة بكل الدول الغربية. أنا لا يسعني إلا أن أقول لأردوغان، ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي لأتاتورك: يا خالد الترك .. جدد خالد العرب.