مرات محدودة هي التي سافرت فيها جوّا داخل الوطن، وكان تنقلي بين بيتي ومطار العاصمة عبر سيارتي، أو سيارة أحد الأصدقاء، أو سيارات الأجرة، وفي آخر مرة نزلت فيها بمطارنا الداخلي الجديد قررت الانتقال عبر الحافلات العامة التي تتحرك نحو وسط العاصمة. كنت على يقين تام أن الرداءة المتفشية لن تصل، إلا بنسب قليلة، إلى أماكن حساسة مثل المطارات، وكنت أمنّي النفس برحلة مريحة وسريعة نحو العاصمة، لكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن، بل إن الرياح في عالمنا الثالث تتحرك في الغالب في اتجاه لا يخدم سفن المواطنين. المفاجأة الأولى كانت شكل الحافلة ومقاعدها ونظافتها، فهي أكثر تواضعا من بعض حافلات القرى والأحياء المهمّشة ذات الطرقات الضيقة المزدهرة بكل أنواع الحفر والمطبّات العشوائية والغبار. كان بحوزتي حقيبة واحدة فوضعتها على ركبتي حتى لا أشغل المكان الذي بجانبي، أما الراكب الذي جاء بعدي مباشرة فكان نصيبه الزجر من صاحب الحافلة المتجهم الوجه، حيث أدخل الرجل معه أكثر من حقيبة ووضعها بطريقة غير مرضية بالنسبة للسائق، وتشابك الرجلان باللسان حتى سلّم الراكب أمره للسائق فبادر هذا برصّ الحقائب بطريقة توفر له مساحة أخرى، منهيا الجدال بالتأكيد على أن حافلته لا تحتوي على صندوق خلفي أو جانبي للحقائب، وهو عذر أقبح من ذنب، فإذا لم يكن لحافلة المطار هذه الخاصية، فأين تكون إذن؟. انتظرنا لمدة تقارب النصف ساعة، لنفاجأ بعد ذلك أن السائق وحيد فريد، فهو دون مساعد أو محصّل، وهكذا بدأ بتثاقل واضح في تحصيل الأجرة، حتى يضمن وصول ركاب جدد يملأ بهم الممر الضيق أصلا. أحد الركاب دفع إلى السائق ورقة مالية كبيرة، فأعاد له الفكّة (الصرف)، ولما تكرر الأمر من راكب آخر تأفّف صاحبنا قليلا، أما عندما رأى راكبا ثالثا يلوّح له بورقة من فئة ألف دينار؛ فقد نفذ صبره، وصرخ: ليس عندي صرف، لماذا لا تحضرون معكم المبلغ المحدد بالتمام، لماذا أُطالب أنا بتوفير الصرف؟. وامتلأت الحافلة أخيرا وتحرك السائق الأشيب، وحمدنا الله على سلامة الانطلاق فهي خطوة حاسمة في رحلتنا تلك، وخرجنا من محيط المطار، ووقفنا في أول محطة قبل دخول الطريق السريع، وهناك تخاصم السائق مع صاحب الألف دينار، وبكلمات أشد عنفا، ومع ذلك لم يتردد في حمل ركاب إضافيين ليزيد بهم ازدحام حافلة المطار المحترمة، وحمدت الله أن رحلتنا الميمونة خالية من أي شقيق عربي أو زائر أجنبي. كلما اقتربنا من العاصمة زاد الازدحام في الطريق السريع، وزاد حنق الرجل ونظراته غير الودية التي يطل بها علينا من خلال المرآة العاكسة، أو تلك التي يرمق بها سيارة أو حافلة مجاورة تجاوزها أو تجاوزته، وبلغ السيل الزّبى عندما كنا قرب البريد المركزي حيث شتم سائقنا أحد السائقين باسم أحد الحيوانات الأليفة المعروفة في بلادنا، وأزعجتني تلك الشتيمة وأسلوبها الحاد، لكنني حمدت الله مرة ثانية، فكل رفاق الرحلة مناّ وفينا. توقفت الحافلة "المباركة" في محطتها النهائية مقابل مجلس الأمة، ومن هناك مشيت الهوينا باتجاه ساحة الشهداء، وعبر منظر البحر الجميل والسفن الراسية والأفق البعيد حاولت طرد كل أكوام الإحباط والتشاؤم، والتزود من جديد بروح الأمل والتفاؤل، وحاولت إقناع نفسي بأن سوء الحظ هو الذي قادني إلى هذه الحافلة في هذا الوقت وهذا اليوم، وقلت في نفسي أيضا إن هذه الحافلة هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، فكل حافلات المطار أكثر من ممتازة، وذلك السائق طيب متعاون لكنه تعرض اليوم ربما، ولسوء حظي، للصفع أو الزجر على الأقل من زوجته، ولعل الحافلة دخلت عن طريق الخطأ خط المطار أو أنها عوّضت حافلة أخرى في هذا اليوم وربما هذا الصباح فقط، وأن السائق لا يعمل دون محصّل ويتحرك في المواعيد المحددة لكن مساعده مرض أو تأخر لعذر قاهر هذا اليوم، وتمنيت أكثر أن يكون وضع المطار الدولي وحافلات النقل منه وإليه في أحسن حالاتها وأفضل زينتها، حتى لا يكون الحديث عن السياحة والاستثمار وصورة الجزائر الخارجية مجرد خطب تزدحم بالصور البيانية الجميلة. هذه الرحلة المباركة ذكّرتني بقصة سفر أحد الزملاء حيث كانت وجهته دولة عربية رفقة عدد معتبر من أشبال الكشافة.. وقد اتجه الزميل نحو خطوطنا الجوية الوطنية، وحاول الحصول على أسعار مناسبة لأعمار فريقه الكشفي وطبيعة الرحلة، ولم يبخل عليه ممثل خطوطنا بالرفض القاطع لأي تعاون حيث أغلق في وجهه جميع أبواب التسهيلات، فما كان من الزميل إلا أن يمّم وجهه صوب خطوط دولة جارة لنا، وهناك وجد الاستقبال والتسهيلات وتخفيضات حسب الفئة العمرية التي ينتمي إليها الأشبال، وحصل على تذكرتين مجّانيتين من مجموع التذاكر، ونزل الأشبال في فندق على حساب الشركة الجوية في عاصمة تلك الدولة، وتفاعل مدير الفندق مع الفريق وأكرم عناصر الكشافة بجولة مجانية في أحياء ومعالم المدينة، لينطلقوا في صباح اليوم التالي فرحين مسرورين بكرم الضيافة وحسن المعاملة. كان الزميل يتحدث بانفعال يشي بإعجاب بالغ بخدمات تلك الخطوط وكرم تلك البلاد، وعندما أكمل بادره أحدنا: كم مرة تحدثت بهذه القصة، وقدمت دعاية مجانية لتلك الخطوط ولمستوى الخدمات السياحية في ذلك البلد؟، فقال: مرات لا تكاد تحصى.. والسؤال البريء الذي يطرح نفسه هنا: كم عدد المسوّقين المجّانيين لخطوطنا الوطنية، ولمرافقنا السياحية العمومية، أتمنى أن يكون العدد معتبرا.. ومع أن الواقع عكس ذلك فليس لنا إلا التمسك بها والعضّ عليها بالنواجذ حتى تنجلي الغمّة وتعود العافية إلى الأمة.