تظل هجومات20أوت1955م واحدة من أهم الذكريات النضالية المجيدة في تاريخ الجزائر،فالأحداث العظيمة تنمو وتكبر قيمتها مع مرور الزمن،وتظل معانيها وقيمها خالدة في نفوس الشعوب ،نظراً لما تستمده منها من زخم وصور خالدة تبث الثقة في النفوس،فمراحل النضال والانتصار تعتبر صفحات خالدة تفرض على الأجيال المعاصرة أن تعتني بها عناية بالغة من أجل تحقيق تواصل تاريخي وحضاري يربط الماضي بالحاضر،ويبني جسور تواصل وطيدة بين السلف والخلف وينير الدروب. إن هجومات20أوت1955م تعتبر من المحطات المفصلية التي مرت بها ثورة التحرير المجيدة،وهي الحدث الأبرز الذي حقق الكثير من الإنجازات الكبيرة للثورة الجزائرية في عامها الأول،كانت لها تأثيرات عميقة على مسار الثورة وتطورها،وانعكست نتائجها على المستوى المغاربي والإقليمي. لقد تعددت المراجع التي كتبت عن هجومات20 أوت1955م،فقد قدم الكثير من المجاهدين مجموعة من الروايات والشهادات عن الوقائع من وجهة نظرهم،ومن الزاوية التي كانت تتراءى لهم منها الأحداث،ومن خلال هذه الورقة نسعى إلى تسليط الضوء على مجموعة من الشهادات التي فصّلت في وصف ذلك اليوم العظيم،كما نحاول التوقف مع أهم المناطق التي شملتها تلك الهجومات العظيمة. فمما لا يشوبه شك أن إلقاء الضوء على مجريات ووقائع حوادث20أوت1955م بالشمال القسنطيني. -الولاية الثانية يكشف من حين إلى آخر جملة من الحقائق التاريخية البالغة الأهمية، يقول العقيد الراحل علي كافي:«إن فكرة عملية20أوت1955 كانت بمبادرة شخصية من البطل الشهيد زيغود يوسف،وتحمّل خطورة مسؤولية نتائج العملية إن لم تسر على ما يرام وحسبما يرجى منها»،وقد فكر زيغود يوسف في البدء أن يشمل ذلك الهجوم كافة أرجاء التراب الوطني ويستمر لمدة أسبوع كامل،بيد أن الظروف الصعبة التي كانت تمر بها الثورة في تلك الفترة لم تكن تسمح بتعميمه ليشمل كامل القطر،فقرر تنظيمه في المنطقة التي يقودها-منطقة الشمال القسنطيني-)1(. وعن الخلفيات التي سبقت هجومات 20أوت1955م يذكر الرئيس المجاهد علي كافي-رحمه الله- في مذكراته في القسم الذي خصصه للحديث عن تلك الهجومات ووسمه ب«بداية ثورة الشعب على الاستعمار»أن ربيع:1955م شكل مرحلة مخاض عسير وضع المنطقة في مفترق طرق،وهذا ما جعل قيادة المنطقة تختار وتحسم وترمي بثقلها في ميزان التاريخ،يقول في هذا الصدد:«إن مسؤولي المنطقة لم يكن يخيفهم رد فعل العدو فهم محصنون بالقناعة الثورية،وليس مثل موقف رؤساء الأحزاب والمترددين والمشككين.فقد دبروا وتوقعوا كل هذا قبل الانطلاقة وأعدوا له العدة في الوقت المناسب،ولكن الشغل الشاغل لهم هو:الأسلحة واحتواء الشعب للثورة واحتضانها وتبنيها عن قناعة والتزام ومسؤولية.فهي ثورة شعبية من الشعب وإليه،وكل هذا يتطلب تخطيطاً وتفكيراً ثورياً موضوعياً واستعداداً كبيراً للتضحية والفداء،وبالتالي مواصلة العمل مهما كان الثمن وتكريس التواجد في كل شبر من تراب المنطقة،تواجد جنود جيش التحرير الممثل الحقيقي والوحيد للثورة والمدافع الحقيقي والوحيد عن الشعب ومكاسب الثورة. ومن الخلفيات الأساسية-التي سطرتها قيادة المنطقة-للإعداد ل20أوت هي تحصين الثورة وحمايتها خاصة بعد عمليات الاعتقال وصعوبة الاتصال ومحاولة خنق الثورة في المهد من طرف القوات الاستعمارية ومن بعض الجزائريين القياديين المتربصين بها،ومن هنا تبدأ عبقرية القيادة وعلى رأسها زيغود يوسف للإعداد لعشرين أوت1955م،وفي هذا الوقت بالذات بدأت تعزيزات جنود قوات الاحتلال تتوافد على الشمال القسنطيني تحت قيادة الجنرال ألارد قائد منطقة الشمال القسنطيني آنذاك،كما وضع العقيد ديكورنو مقر قيادته في الحروش،والهدف هو ضرب المنطقة الثانية وإخماد الثورة فيها،على إثر شبه الصمت الذي عم المنطقة الأولى بعد اعتقال بن بولعيد»)2(. وفي قسم خاص وسمه ب«هكذا تم الإعداد ل20أوت1955م»ذكر العقيد علي كافي أن شهر جويلية1955م شهد اجتماعاً في دشرة الزمان في دار رابح يونس في الطريق الجبلي الرابط بين سكيكدة والقل،بين مسؤولي الناحية الثانية،تم تبعه اجتماع موسع لجميع جنود وضباط المنطقة الثانية في دار المجاجدة،وقد حضر هذا الاجتماع عمارة بوقلاز عن ناحية سوق أهراس،وقد تسلم القادة الأوامر والتعليمات من زيغود استعداداً لليوم المشهود،وبعد اجتماع المجاجدة وصل كل من بن طوبال وعمار بن عودة كل على حدة،وتسلما التعليمات،وقد تم التوزيع بإسناد الناحية الأولى لبن طوبال وهي تبدأ من سوق الاثنين غرباً إلى وادي الرمال شرقاً،وجنوباً ميلة-قرارم إلى تلاغمة وتشمل العلمة وإلى غاية مدينة سطيف. أما زيغود فقد تولى الناحية التي تراسم ناحية بن طوبال غرباً وناحية بن عودة شرقاً وتمتد من قالمة إلى الساحل إلى الحدود التونسية. ومن بين ما نبه إليه العقيد علي كافي أنه تفنيداً لجميع المزاعم والتزييفات التي روجت بأن عمليات20أوت كانت مرتجلة،فقد تبين أن الإعداد دام ثلاثة أشهر،كما أن اختيار أماكن العمليات كان مدروساً ودقيقاً ومضبوطاً،ويخضع لشروط أساسية ثلاثة: 1أبعاد العملية يجب أن يتحسس بها الجميع إلى أبعد حد. 2جمع ونقل وتخزين الأسلحة وتجمع المشاركين يجب أن يتم دون مشاكل أو صعوبات. 3الانسحاب يجب أن يتم في أحسن الظروف. يضاف إليها بث فقدان الأمن في صفوف قوات العدو والمعمرين وغلاة الاستعماريين وزرع الرعب فيهم. وقد حددت أهداف الهجوم بأنها تشمل جميع المواقع العسكرية من ثكنات ومراكز البوليس والجندرمة والمؤسسات الاقتصادية ومعاقل الأوروبيين،وقد خطط على: -أن يتم الهجوم في وضح النهار حتى تشاهد الجماهير الشعبية جنودها وتلتحم بهم لرفع المعنويات ولتحطيم قوة العدو. - تتواصل العملية ثلاثة أيام لكل يوم أهدافه. - إعدام من لم يستجب لنداء الثورة وتحالف مع العدو. -تسليم مشعل الثورة للجماهير. - فك الحصار عن المنطقة الأولى. - حث باقي المناطق على النهوض حتى تشمل الثورة جميع ربوع الوطن. - وضع خط أحمر أمام كل متردد. - الإصداع باللاعودة بعد هذا اليوم. -20أوت تضامن فعال وبالدم مع الشعب المغربي في ذكرى نفي محمد الخامس. -استكمال شمولية الكفاح في كامل أرجاء المغرب العربي وذاك أحد أهداف أول نوفمبر. - القضاء على التعتيم الإعلامي الغربي وإسماع صوت الثورة في المحافل الدولية. إنها قمة التحدي وحكمة التخطيط وروعة الفداء)3(. وفي سياق الخلفيات التي سبقت هجومات20 أوت 1955م،يشير الدكتور عامر رخيلة إلى أنه«يخطئ من يعتقد بأن الساسة والعسكريين الفرنسيين تعاملوا مع الثورة التحريرية عسكرياً بالمستوى الذي تقتضيه محدودية الأحداث والعمليات التي قامت بها طلائع نوفمبر،وقد تميزت تصريحات الساسة الفرنسيين بالإصرار على تأكيد الطروحات المعهودة بشأن الوضع في الجزائر مؤكدين تمسكهم بوحدة فرنسا التي تعتبر الجزائر جزءاً لا يتجزأ منها،وهو الأمر الذي لم يسبق أن اختلف بشأنه اليمين واليسار الفرنسيين. وعلى الصعيد العسكري أعلنت السلطات الفرنسية إنشاء مناطق محرمة لتبدأ بذلك سياسة حربية قائمة على وسائل القمع والاضطهاد من خلال: -شن عمليات تمشيط واسعة بالأوراس وبلاد القبائل ومعظم مناطق الشرق الجزائري. -إجلاء السكان وتحويلهم بعد حرق مداشرهم وشن حملات اعتقال في صفوفهم. -فتح محتشدات واعتمادها كمراكز إيواء معزولة. -اتخاذ جملة من الإجراءات الردعية والزجرية ضد المدنيين في المدن والقرى،وبحلول سنة:1955م عرفت الساحة العسكرية بالنسبة للطرف الفرنسي دعماً كبيراً،إذ تدعمت القوات الفرنسية العاملة في الجزائر بقوات جديدة لتصل إلى ضعف ما كانت عليه عند اندلاع الثورة،إذ بلغت في:26فيفري 1955 حوالي300,80عسكري وهو الرقم الذي ظل يزداد ارتفاعاً طيلة سنوات الحرب،ونالت فرنسا تزكية حلفائها في الحلف الأطلسي لحربها في الجزائر من خلال إعلان الحلف الأطلسي في:26مارس 1956 تدعيمه للحكومة الفرنسية لوجستياً ومالياً لمواجهة الثورة الجزائرية. والملاحظ أن الثورة التحريرية عرفت خلال العشرة شهور الفاصلة بين اندلاع الثورة و20أوت 1955م جملة من الأحداث المعرقلة لمسارها،يمكن ذكر بعضها فيما يلي: -حملة الاعتقالات التي شملت المناضلين مما كان له أثره البين على إمكانيات التجنيد في صفوف الجبهة،وهو الأمر الذي كانت عمليات الاعتقال تستهدفه-أي الحد من تجنيد الجبهة-. -السقوط المبكر لبعض القادة في ساحة المعركة مثل:استشهاد بن عبد المالك رمضان يوم:4 نوفمبر،باجي مختار يوم:19 نوفمبر،قرين بلقاسم يوم:29 نوفمبر،ديدوش مراد يوم:18 جانفي 1955، وغيرهم من المجاهدين الأوائل. -إلقاء القبض على قادة من جبهة التحرير الوطني وكان أولهم مصطفى بن بولعيد بتاريخ:11فيفري 1955 وهو قائد منطقة الأوراس،ليتم في الشهر الموالي وبالتحديد يوم:23مارس1955 اعتقال رابح بيطاط قائد المنطقة الرابعة. ظهور الحركة المصالية اثر اندلاع الثورة مباشرة وما كان لذلك من تأثير على الرؤية السليمة للمناضلين والمواطنين لما يجري على الساحة من صراع خاصة وأن تأثير شخصية مصالي على المناضلين في الجزائر والمهجر إلى ذلك الوقت لا يمكن لأي كان الطعن فيها. -فرض السلطات العسكرية حصاراً شديداً على منطقة الأوراس وتشديد الخناق عليها»)4(. فلا شك في أن الهدف الرئيس للاحتلال الفرنسي هو القضاء على الثورة في عامها الأول،وجعلها مجرد انتفاضة محلية وجهوية لا غير،وذلك ما صرح به جل المسؤولين الفرنسيين لتضليل الرأي العام،وعزل الثورة عن الشعب وتطويقها وإخمادها،ولذلك فقد وجهت فرنسا ثقلها العسكري إلى منطقة الأوراس،وقد جاءت هجومات20أوت1955م لتنسف جميع الادعاءات والأكاذيب الفرنسية،وتؤكد شمولية الثورة الجزائرية المظفرة،ووفق ما جاء في شهادة المجاهد أحمد هبهوب التي رواها الأستاذ عثمان الطاهر علية فالأهداف التي كان يصبو إلى تحقيقها زيغود يوسف هي: 1فتح أبواب الثورة على مصراعيها أمام جميع المواطنين الجزائريين لدخول المعركة،وبذلك تصبح ثورتنا ثورة مجموع الشعب كله بدلاً من أن تبقى محدودة في مجموعات صغيرة من الرجال. 2الضغط على القوات الفرنسية التي تضرب طوقاً محكماً على منطقة الأوراس وإجبارها على الانسحاب منها وتشتيت شملها،وذلك حتى لا تترك المجال مفتوحاً أمامها لتجميع قواها والقضاء على خلايا ثورتنا الحية خلية بعد خلية. 3 التعبير عن التضامن والتكاثف مع الشعب المغربي بعد اعتقال ونفي الملك محمد الخامس. 4القضاء على الدعاية الفرنسية الزاعمة بأن ثورة الجزائر مستوحاة من الخارج وليست نابعة من صميم الشعب الجزائري. 5أما الهدف الأسمى فهو تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة لهيئة الأممالمتحدة. وبالنسبة إلى تحديد يوم السبت20أوت1955م موعداً للهجوم،فهذا الأمر يرجع إلى سببين: 1يمثل هذا اليوم نهاية الأسبوع وبداية العطل والإجازات للجنود الفرنسيين ورجال الشرطة والدرك. 2في مثل هذا اليوم يعرف سوق سكيكدة حركة كبيرة،حيث يتوافد إليه عدد كبير من المواطنين من مختلف المناطق مما يسهل المهمة لجنود جيش التحرير الوطني للدخول إلى المدينة في زي تنكري مدني يتم من خلاله إخفاء الألبسة العسكرية والأسلحة.وقد حدد منتصف النهار كونه يتزامن مع خروج الأوروبيين من عملهم لتناول وجبات الغذاء،وبالتالي تسهل مهمة تنفيذ الهجوم،وبالنسبة إلى التحضيرات العسكرية والبشرية التي سبقت الهجوم فقد«كانت عملية توفير السلاح لتزويد المجاهدين وتدريب المواطنين وتوفير اللباس العسكري من أهم المشاكل التي طرحت خلال الاجتماع الذي سبق وأن تحدثنا عنه،خاصة أن السلطات الاستعمارية شددت رقابتها وكثفت عمليات التفتيش بحثاً عن السلاح لدى المواطنين وفرض العقوبات على كل محرز للسلاح،كما فرضت القيود على بيع البنزين والكيروسين خوفاً من استغلالها في صنع قنابل المولوتوف،وتصدياً لكل هذه المشاكل عيّن زيغود يوسف مسؤولين للإشراف على عملية التنظيم العسكري عن طريق: -تحديد المهام والمسؤوليات وتوزيع المسؤولين على جميع النواحي قصد توفير الشروط المادية والبشرية والمعنوية لإنجاح عملية الهجوم. -جمع الأسلحة والذخيرة الحربية ومعدات الهجوم والألبسة والتموين وتخزينها للوقت المناسب وجمع الأدوية ووسائل العلاج. -تكليف بعض المواطنين من ذوي الخبرة بصنع القنابل الحارقة(مولوتوف) وصنع القنابل اليدوية من علب السردين والطماطم. -إحصاء مراكز العدو وثكناته وعدد قواته وعتاده الحربي مع دراسة شاملة لوضعيتها الاستراتيجية. -التدريب العسكري للمسبلين والمناضلين الذين أصرت قيادة المنطقة الثانية على إشراكهم بأعداد كبيرة في الهجوم. أما أسلوب القتال مع العدو فقد اعتمد على حرب العصابات مع حسن الاختيار الدقيق لأماكن العمليات لتمكين المهاجمين من الاحتماء بها بعد تنفيذ مهامهم.وقد تجسدت التحضيرات البشرية في جمع المجاهدين والمسبلين والمناضلين بعيداً عن أعين الاستعمار،قصد تشكيل أفواج الهجوم وتوزيع الأسلحة عليهم وإطلاعهم على الأهداف المحددة للهجوم،وقد نهض بهذه المهمة كل مسؤول في ناحيته،إذ عينهم زيغود يوسف لإتمام التحضيرات المادية والبشرية والمعنوية،وقد تمت هذه العملية في سرية تامة إلى غاية:19 أوت1955م،حيث اطلعت عليها أفواج الهجوم التي تشكلت في جميع نواحي المنطقة وهي كالتالي:مدينة سكيكدة وضواحيها،ناحية الحروش،ناحية سمندو،ناحية الميلية،ناحية القل،ناحية قسنطينة،ناحية وادي الزناتي. يتبع