¯والمؤكد أن في هذه الصحف كثيرون يتناولون قضايانا الداخلية بوفرة قد تبعث على الملل، ولا أظن أنها في حاجة لقلم إضافي يزيد من حجم الملل، خصوصا وأنا لست من المغرمين باستراق السمع من وراء الأبواب أو التلصص من ثقوب المفاتيح أو استجداء المعطيات المعلوماتية ممن يتعاملون معنا بأسلوب : قوم استنبح الأضياف كلبهم. السبب الثاني هو أن كل ما نعانيه لا يشبه في شيئ مأساة الأشقاء في مصر، وقد لاحظت محدودية التعمق في تناول ما تعانيه أرض الكنانة، وكثير مما يكتب يفتقد معطيات أساسية، أزعم أنني من بين من يعرفون عنها الكثير، رغم إدراكي بأن ما أكتبه لا يرضي الفريقين. ومصر رقم بالغ الأهمية في معادلة الوطن العربي، وشعبها شعب نبيل ورائع وذكي وشجاع، وهي تتوفر اليوم على نخبة من الجيل الصاعد، تضم مسلمين ومسيحيين ويساريين ويمينيين، وهي نخبة حقيقية تتمتع بالحيوية وبالذكاء، مقارنة بنخبة متكلسة كانت جزءا من المعارضة الديكورية في العهود السابقة وهي اليوم تمتطي الدبابة لتحافظ على وجودها. واهتمامنا بمصر جزء أساسي من اهتمامنا بأمننا القومي، الذي يتجاوز، كما سبق أن قلت أكثر من مرة، حدودنا الجغرافية، وهو حق وواجب في الوقت نفسه. وأنا شخصيا أرفض منطق من يخلط بين شبهة التدخل وبين الاهتمام بمعاناة بلد عزيز، من المؤكد أن استقراره وازدهاره ضرورة حيوية لاستقرارنا وازدهارنا جميعا. وقد سبق أن قلت تحت عنوان: وقفة تعبوية أخرى، بأنني أطالب كل المنتمين لما يُسمّى * الإسلام السياسي * بوقفة مع الذات، يراجعون فيها مسيرتهم ويحددون أخطاءهم وعثراتهم، وهي ضرورة لتحقيق مصالحة لا مفر منها مهما كانت مرارتها. وفي الأسبوع التالي قرأت نص اعتذار أدلي به واحد من قيادات الإخوان المسلمين، هو الدكتور صلاح سلطان، اختار له عنوانا بالغ الأهمية يقول: اعتذار إلى الله واعتذار لمصرنا وأهلنا، وجاء فيه: نحن نعتذر عن أخطاء في الاجتهاد السياسي في أمور أهمها ما يلي: 1 قبولنا، كما فعل الكثير، الحوار مع عمر سليمان (مدير المخابرات المصرية الأسطوري، ونائب الرئيس مبارك الذي عين في هذا المنصب في الأيام الأخيرة للرئيس المصري) والمجلس العسكري لقيادة مصر فترة مؤقتة (بقيادة المشير حسين طنطاوي) أملا في التدرج في الإصلاح والتغيير، وندرك الآن أن المسار الثوري باستمرار الحشد الشعبي في الميادين كان أنفع لتحقيق مقاصد ثورة 25 يناير. 2 قبولنا الاستمرار في تحمل المسئولية في هذا الوقت العصيب رغم العرض والرفض من الكثير من شركاء الثورة أو الوطنيين المستقلين، مع استمرار قوى الفلول والمنتفعين والمتخوفين من العدالة في هدم أي مشروع إصلاحي، وكان يجب مصارحة ومشاركة الشعب المصري كله ليحمل معنا أعباء المعوقات والمؤامرات. 3 تقديم التحاور الإصلاحي على العلاج الثوري الناجع مع قوى التآمر، التي ظلت تعمل جاهدة لإفشال المسار الديمقراطي والمكتسبات الثورية، والصناديق الانتخابية، وخاصة الحملات الإعلامية التي شيطنت الثورة وفرقت وحدتها، وخوّنت قادتها، وهيأت للانقلاب العسكري الدموي، والاحتقان والتمزق الشعبي. 4 عدم الاستيعاب الكافي لقطاعين عظيمين هما الشباب والنساء، وقد كانا ولا يزالان الوقود الأول والأقوى في ثورة يناير وما بعدها حتى اليوم، مما دفع كثيرا من المخلصين منهما أن يبحثوا عن منافذ وآفاق أخرى لتحقيق آمالهم، فشاركوا فيما لم يحسبوا مآله على مصرنا لعله يقصد حشود 30 يونيو مما يأسى له كل محب لمصر وأهلها الآن.انتهى. والندم بادٍ في كل جملة من اعتذار يذكرني بالمقولة الرائعة من أن كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، لكنني شخصيا أرى أن هذا هو اعتذار أعرج. وحقيقي أيضا أن الاعتذار موجه للشعب المصري ولشباب الثورة بما يوضح تماما أن القضية هنا ليست تراجعا يمد اليد لنظام نتج عن حشود 30 يونيو، التي ما زال حملة المباخر يصرون على أنها ثورة عظيمة قام بها عشرات الملايين من المصريين، بما يجعلها انقلابا شعبيا، وهو التعبير الذي أصبح يستعمل بعد أن فشل القوم في محو تعبير الانقلاب من دائرة التعبيرات المستعملة في العالم كله، وحتى بصفحات مدفوعة الثمن في الصحف الغربية. لماذا إذن أستهين به، برغم ما قد يراه البعض بأن القسوة في التعامل معه تجاهل لمعاناة الإخوان المسلمين اليوم من قمع وتشريد وإرهاب. هناك سبب رئيسي أراه بالغ الأهمية، وهو أن الاعتذار كان يجب أن يكون أكثر استفاضة بالنسبة لمواقف الإخوان المسلمين من النضال المصري عبر العقود الماضية، وهو ما يذكر بأن مستشاري الرئيس الأسير لم يكونوا في مستوى المهمة التاريخية لأول رئيس منتخب عرفته مصر. وأنا لا أستطيع أن أنسى بأن محمد مرسي، فك الله أسره، تحدث في أول خطبه على ما أتذكر عن النضال الوطني المصري منذ العشرينيات، وكان واضحا أنه يقصد بهذا إنشاء حركة الإخوان في 1928 على يد الشهيد حسن البنا. وكان ذلك خطأ فادحا، فالرئيس المصري، أي رئيس مصري، يجسد كل التاريخ المصري منذ عهد مينا موحّد القطرين، ولم يكن مرسي مطالبا بالعودة إلى عصور التاريخ السحيقة، بل كان يكفي أن يمجد المقاومة الشعبية المصرية ضد الحملة الفرنسية 1798-1801 عندما داست خيول نابليون أرض الجامع الأزهر، وعندما ارتبط نضال المصريين يومها بالقطر السوري، باغتيال الطالب السوري سليمان الحلبي الجنرال جان باتيست كليبر في 14 يونيو ,1800 والذي دفع حياته ثمنا له، وكانت تلك فرصة لدعم الشعب السوري في نضاله. وكان الرئيس مرسي قادرا على استثمار نتائج الحملة الفرنسية للتذكير بأول انتخاب شعبي تم به اختيار محمد علي باشا حاكما لمصر بفضل الشيخ عمر مكرم، الذي تزعم المقاومة المصرية الثانية في ,1800 وجند الأشراف باسم الشعب لمبايعة رأس الأسرة العلوية التي انتهت بالملك فاروق. وكان من الممكن إضافة جملة واحدة تمجد ثورة عرابي، الذي جسد ثورة الفلاحين ضد الخديوي توفيق، وجملة أخرى لتحية ثورة ,1919 تكون فرصة لكسب قلوب الأقباط بالتذكير أنهم كانوا مع المسلمين قوة واحدة منسجمة في وجه الاحتلال البريطاني، وذلك بدلا من تكرار كلمتي : أهلي وعشيرتي، ربما بإشارة من أحد المستشارين الذين تم اختراق رئاسة الجمهورية بهم، وجعلت صديقا مصريا يقول ضاحكا بأن جناحا هاما في مصر كره الرئيس لأنه قال : أهلي وعشيرتي، ولم يقل أيضا : زمالك وعشيرتي (والأهلي والزمالك ناديان مصريان متنافسان على قلوب المصريين لكن الخطأ الأكبر هو ما سبق أن أشرت له، وهو إذكاء الأحقاد القديمة ضد الرئيس جمال عبد الناصر، وهكذا ضاعت فرصة هائلة من الإخوان المسلمين، الذين يواصلون إحياء روح الكراهية القديمة ضد نظام لا شك أنهم عانوا من بطشه، غير أن السياسية ليست حبًا في علي أو كرهًا لمعاوية ولكنها حسابات المصلحة السياسية والمردود الشعبي. وهنا، كان لابد من كلمات واضحة تضع خطا فاصلا بين ممارسات الإخوان المسلمين، أو بعض من يحسب عليهم أو ينتمي لهم، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهي ممارسات تتطلب التنديد الواضح الصريح، وليس اجترار التنديد بستين سنة من حكم العسكر، والذي كانت بعض مراحله فخرا لمصر، شعبا وجيشا وقيادة. وهكذا تبدو رسالة الاعتذار كسعي نحو مصالحة مع الثوار الرافضين لسرقة الثورة بحشود ثبت اليوم أنها أبعد ما تكون عن حشود يناير ,2011 لكن نقطة الضعف في الرسالة أنها بدت كمجرد بالون اختبار. وكان المطلوب أن تكون تعبيرا عن إرادة سياسية جماعية، لا مجرد رأي شخصي لأي فرد مهما كان مستواه، وهو ما يعني أنها كان يجب أن تصدر عن قيادة إخوانية مرحلية يتم اختيارها لتقوم بدور القادة المسجونين بتهم لا يختلف كثيرون في أنها تهم ملفقة. وأنا لا أشكك في النوايا الطيبة، خصوصا وأن بعض الذين يدافعون عن العملية الانقلابية يبدون أكثر ملكية من الملك، وهو ينادون اليوم بتحكيم الأغلبية بعد أن نددوا بها طويلا مطالبين بالتوافق، ويحاولون استثمار عمليات الإرهاب، الذي كان مجرد احتمال قبل 3 يوليو، كما صرح بذلك وزير الدفاع، فأصبح واقعا دمويا بعد 26 يوليو، وهذا يعطي الفرصة لحمالات الحطب وأحفاد أبي لهب لصب الزيت على نار الفرقة الوطنية، لأنهم يعرفون أن حليفهم الرئيسي هو المدفع والدبابة. ولأن الشعب يرفضهم ينشدون بكل فجور : إحنا شعب وانتم شعب. وتتزايد التساؤلات حول اتساع رقعة العمليات التي ترفع شعار محاربة الإرهاب، لأن مصداقية إعلام السلطة الجديدة لم تعد فوق مستوى الشبهات، وحجم تضليله يفوق كل وصف. لكن اسطوانات أنصار 30 يونيو لم تعد تقنع أحدا، بل إن الحوار الذي نشر على لسان الرئيس مبارك في شيفونة مصرية بدا كمهزلة حقيقية، حاول فيها خابورجي انتزاع إجابات معينة من رجل كان يبدو...قرفانا من كل شيئ. ويقف الشارع المصري وقفة عنيدة، تذكر بوقفته في 1952 وفي .1977 وما زلت أدعو الله أن يحمي مصر من كل أعدائها ومن بعض أبنائها.