يخلط أغلب الجزائريين مابين المشاكل النفسية والعقلية، مما يشكل لديهم عقدة من التصريح بمعاناتهم النفسية، رغم أن هذه الأخيرة تعد أكثر من طبيعية على أيامنا، وقد تجاوزتها أغلب المجتمعات المتقدمة التي صارفيها الأخصائي النفساني كمستشار لكل ما يواجه مواطنيها من مشاكل وعراقيل، خاصة في ظل الأزمات السوسيو اقتصادية التي تلقي بظلالها على العالم. من الغريب أننا لا نكاد نجد أثرا لوجود الأخصائيين النفسانيين في مؤسساتنا بالجزائر، خاصة التربوية منها رغم أن الجامعات الجزائرية تخرج سنويا الآلاف منهم، لكنهم غائبون للأسف في الميدان لأن دورهم الفعلي في المجتمع غائب،بسبب تتجاهل أغلب المؤسسات لأهمية وجودهم، اللهم إلا في مسابقات التوظيف ليتوقف الأمر عند هذا الحد، هذا ما يحضرني والجزائر تحيي اليوم العالمي للصحة النفسية الموافق ل10 أكتوبر على غرار دول العالم. وأغرب ما في الأمر أنه في الوقت الذي تتفاقم فيه المشاكل النفسية جراء تسارع الحياة العصرية بمتطلباتها الاقتصادية وعدم توافق أغلب الجزائريين معها، يعاني أغلب خريجي علم النفس من البطالة وغالبا ما يحولون اختصاصهم إلى مهن أخرى. تشير الدراسات الميدانية إلى إصابة نسبة كبيرة من الجزائريين بالقلق الدائم والمزمن الذي يعتبر بوابة للأمراض النفسية و يؤدي في أحيان كثيرة إلى الأرق وفقدان الشهية أو الانهيارات العصبية ، كما تحصي الجزائر 10 بالمائة في أوساط مواطنيها ممن يعانون مشاكل نفسية، 40 بالمائة من هذه المشاكل انهيارات عصبية و75 بالمائة من المصابين بها نساء, مما يعكس استمرار تعرض النساء في مجتمعنا إلى العنف والضغط وسيطرة الرجل والمجتمع بشكل عام. فيما يوضح البروفسور تيجيزة أخصائي الأمراض النفسية والعصبية أن الجزائريين اليوم تهددهم نوعان من الأمراض النفسية، حيث يعاني 500 ألف جزائري تقل أعمارهم عن 30 سنة من انفصام الشخصية، فيما يعاني 100 ألف منهم من الزهايمر المبكر أي ابتداء من سن ال50 مما يدق ناقوس الخطر حول هذا المرض بالذات الذي يصيب غالبا الفئة العمرية ما فوق 80 سنة في الدول المتقدمة، بينما يصيب الجزائريين مبكرا جدا نتيجة للضغوط الاجتماعية والحياة الصعبة. وهو ما ينعكس فعليا على واقع الجزائريين الذين لا ينعمون بشيخوخة مريحة في مجتمعنا، فبعد التقاعد مباشرة تبدأ معاناة الرجال من التهميش وقلة القيمة للأسف حتى بين أبنائهم وزوجاتهم، أما من ناحية الترفيه فهو منعدم لهذه الفئة مما يضيق عليها أكثر فأكثر فتقع في دوامة الأمراض النفسية وعلى رأسها الاكتئاب والزهايمر. الأطفال يعانون من الأمراض النفسية في صمت لم تبق فئة الأطفال بمنأى عن الأمراض والاضطرابات النفسية فالأطفال عادة هم نتيجة المشاكل النفسية التي تعاني منها الأسرة، بل يؤكد الأخصائيون أنها الفئة الأكثر إصابة بالاضطرابات النفسية في عصرنا، نتيجة للعنف المنزلي، التفكك الأسري والطلاق الذي بلغ أرقاما خيالية كما لا يخف على أحد الأحداث المؤلمة التي تعرض لها الكثير من الأطفال جراء موجة الاختطافات والاعتداءات التي اجتاحت مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة و أثرت سلبا على نفسيات الأطفال الذين سيطر عليهم الخوف والقلق والإحساس بانعدام الأمان. ومن الغريب أن رغم تسجيل الجزائر لهذه الأحداث التي هزت الرأي العام، إلا أن وزارة التربية لم تفكر في توظيف الأخصائيين النفسانيين على مستوى كل مؤسسة تربوية لمتابعة مشاكل الأطفال المتمدرسين.لأن حسن النتائج المدرسية تعتبر مقياسا للصحة النفسية للتلاميذ، فإذا ما تراجع مستوى التلميذ فجأة عرض على الأخصائي النفساني لتبيان المشكلة التي يعاني منها كما يحدث في كل دول العالم المتحضر, أما أن نلجأ إلى معاقبة التلميذ دون أن نتفهم معاناته وشكواه فبالتأكيد سنزيد الطين بله، وهو ما يفسر إقدام عدد لا يستهان به من التلاميذ لا تتجاوز أعمارهم ال12 سنة على الانتحار في بلادنا، وهي سابقة خطيرة دق لها الأخصائيون ناقوس الخطر, وعلى رأسهم البروفيسور خياطي الذي حذر من تفشي الانتحار في أوساط الأطفال والمراهقين بسبب تسجيل ألف محاولة انتحار سنويا في صفوف الأطفال حسب دراسة قامت بهاصصالفورامصص وهو رقم جدير بأن يقف عنده الكل من أولياء الأسر إلى مسئولي التربية والتعليم وحتى وزارة الصحة. وفي هذا الإطار أيضا،أكدت الدكتورة بن فليس خديجة أن غياب الحوار والتفاعل الأسري أدى إلى انتشار مختلف المشاكل التي يواجهها الأبناء تجاه آبائهم أو الأزواج تجاه بعضهم البعض، في ظل الاضطرابات الانفعالية والسلوكية التي تظهر لدى الأطفال والمراهقين في سن مبكرة، الأمر الذي أرجعته إلى قلة الوعي والإدراك لدى أفراد الأسرة الواحدة التي تمر بمجموعة من الأزمات، ترتبط غالبا بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وبانسحاب الوالدين من أداء المهام الأبوية بشكل فعّال. الأمراض النفسية سبب مباشر للإصابة بالأمراض الجسدية يؤكد الأخصائيون الحقيقة العلمية أن أغلب الأمراض العضوية أسبابها نفسية مثل القرحة المعدية، القولون، السكري، ارتفاع الضغط الدموي وغيرها من الأمراض التي تتسبب فيها الضغوطات النفسية التي لا تعالج في الوقت المناسب وتتفاقم إلى أن تصل بصاحبها إلى الحالات العضوية العويصة. كما ثبت أن الاكتئاب يتسبب في إصابة الأشخاص بأمراض القلب. ومن أخطر ما وصلت إليه الدراسات أن حالات الكرب والإجهاد تؤدي إلى إضعاف المناعة لدى الأشخاص فيصبح الشخص عرضة للإصابة بأي من الأمراض المناعية الخطيرة على غرار السرطانات، لذا يشدد الأخصائيون على ضرورة أن تكون معالجة ثنائية زنفسية جسديةس حتى يكون العلاج فعالا وناجعا لصحة الأشخاص. لكن وللأسف أن العلاج النفسي في بلادنا يبقى من الشعارات البعيدة عن كل مؤسساتنا العامة، التربوية وحتى الاستشفائية. إذ هل يعقل أن تخلو مصلحة كزبيير وماري كوريس من أخصائيين نفسانيين يرفعون معنويات المرضى بعد عمليات استئصال الورم وأجزاء أخرى من الجسم. كما يحدث في مصلحة أمراض الثدي حيث تحتاج النساء إلى الكثير من الرعاية النفسية، لكن الغريب أن بعض المريضات يحظين بالرعاية النفسية على حساب أخريات يدخلن ويخرجن من المصلحة دون أن يسمعن كلمة مواساة.وحتى في مصلحة أمراض الأطفال يسجل تقصيرا كبيرا في هذا الجانب، رغم أن هؤلاء البراعم الذين داهمهم المرض في أمس الحاجة إلى الرعاية والتكفل النفسي الذي لا يرق للأسف إلى المستوى المطلوب. الرقية بديل عيادات الطب النفسي بالجزائر يفضل الجزائريون التصديق بالعين والسحر والمس على الاعتراف بالاضطرابات النفسية، لأنها لسبب بسيط مرادف للجنون و بالتالي التهميش والنظرة الدونية من طرف المجتمع. لذا تجد عيادات الرقاة الذين لا يحفظون حتى حزبا كاملا من كتاب الله مكتظة بالمرضى على عكس العيادات النفسية التي تعد زبائنها على الأصابع وأغلبهم من الزوار في الخفاء. وهذا الوضع للأسف ليس سوى دليلا على أن المجتمع الجزائري بينه وبين التقدم زمن, وليس في كلامي أي إنقاص لمكانة الرقية الشرعية الصحيحة، وإنما لهذه الأخيرة مجالها وللطب النفسي مجاله هو الآخر الذي يجب أن يعطى المكانة اللائقة به لأنه من ضرورات العصر، وسواء في المؤسسات العامة للدولة، أو التربوية أو الاستشفائية حضور الأخصائيين النفسانيين ضرورة حضارية لا يجب التغاضي عنها أكثر.