لا أستطيع أن آكل من لحم الأضحية، إذا حضرت ذبحها وسلخها وتقطيعها، لا بد أن أراها أول مرة في الثلاجة حتى أستطيع أن أصيب منها بلغة القدامى، أما أن أكون أنا الذابح أو السالخ، فهذا من الطقوس التي لم أتجرأ عليها إلا مرتين في حياتي، محاولة مني للتعود تحت ضغط الأهل، قبل أن أقرر وأعلن ذلك بكل شجاعة: أنا لن أذبح ولن أسلخ أبدا، مستعدّا لأن أتحمل ما يجلبه هذا القرار من سخرية في بيئة تعتبر ذلك من قلة الرجولة. لا زلت أحتفظ في ذاكرتي بكل المرات التي تعرضت فيها للضرب المبرّح صغيرا، وقد كتبت عن بعضها سابقا في هذه المساحة، وسأكتب اليوم عن ضربة عيد الأضحى، إذ كان جدي يجمع أطفال العائلة البالغين والموشكين على البلوغ بعد عودته من صلاة العيد، ليشهدوا طقس الذبح فيتعلموه. كان يقول لنا إن الرجل الذي لا يتعلم هذه الأمور في صغره، سوف يضحك عليه الرجال في كبره، وأنا أذكر عبارته هذه عند حلول عيد الأضحى، حيث أجدني ملزما بالبحث عمّن يذبح ويسلخ لي بعيدا عني. أخرج الجد نعجة ضخمة من الزريبة، واستقبل بها القبلة، وهو يقول لها: قبّلناك كيما قبّل سيدنا براهيم وليدو... الله أكبر واللي كلا منك بشّيشة حلال، ومرر الموس على عنقها حتى تطاير دمها على وجهي، فوقعت مغميا علي. كان ذلك بالنسبة إليه فعلا أبعد ما يكون عن الرجولة، لذلك فقد بيّت في نفسه أن يلقنني درسا. هرعتْ أمي إلي تحت صرخات الأطفال، محتضنة إياي بكل قوتها، وهرعت جدتي بإناء من القربة، وما أن صحوتُ، بعد أن رشّتني، حتى تلقفني الجد ككتكوت من تحت جناح دجاجة، وراح يطعمني صفعاتٍ لا زلت أذكرهن حتى اليوم كلما لمست وجهي، وهو يقول لي: الرجل لا يخاف من الدم، وستكون أنت من يذبح شاة العيد في العام القادم. إني أرى وأنا أكتب الآن هذه السطور دم رعافي وهو يمتزج بالدم الذي أصابني من النعجة المذبوحة. هل حقدت عليه؟ طبعا... لكنني غفرت له ذلك كله بمجرد أن أهداني خروفا ماتت والدته وهي تلده، وطلب مني أن أربّيه. هل كان جدي بحاجة إلى أن يوصيني عليه؟ لقد انبريت عفويا إلى تنظيفه من السلاء، وحملته بين ذراعيّ باحثا له عن ضرع. هنا لا بد من التذكير بأن أبشع السرقات في قريتي أولاد جحيش سرقة الحليب من الضروع مباشرة، وقد كنت على معرفةٍ بهذا المعطى، لذلك كان حذري وأنا أفعل ذلك في أوجّه. كانت المرة الأولى التي يذوق فيها الخروف العزيز حليبا، وكانت المرة الأولى التي أمارس فيها فعل السرقة، كما كانت المرة الأولى التي لا أجد فيها حرجا من أن يشاركني كائن آخر الفراش، كنت يومها أقبل أن يأكلوا حصتي من الطعام، لكنني لا أقبل أن يشاركوني الفراش. كنت أتركه ينام بقربي، وأتحمّل عتابات أمي وهو تنظف الفراش كل يوم، وقد تذكرتُ ذلك هذه الأيام وأنا أقرأ كلمة جوزيه سراماغو في حفل تسلمه لجائزة نوبل عام 1998 حيث استرجع تلك اللحظات البعيدة التي كان جده لأمه جيرونيمو يرغمه على أن يشاركه الفراشَ صغارُ الخنازير حتى لا تموت بردا... يقول سراماغو: كان جدي وجدتي مخلوقين طيبين، إلا أن إقدامهما على هذا العمل بالذات، بسبب حرصهما على مصدر عيشهما الوحيد. لقد وضعت حدا لتأنيب الضمير الذي كان ينتابني كلما هممت بإرضاع خروفي من زريبة جدي، بأن أفتيت لنفسي بجواز ذلك، فجدي ليس بحاجة إلى كل هذا الحليب المتوفر في عشرات الضروع، بينما يحتاجه خروف يتيم مثل خروفي. من هنا بدأت أتعلم وأنا بن العاشرة تقريبا كيف أخضِعُ الفتاوى الدينية للعقل، وأنفر من تلك التي لا أساس عقلي لها. كنت أذهب باكرا إلى المدرسة التي تبعد عن حوشنا ستة كيلوات تقريبا، تاركا خروفي يثغو احتجاجا على أنني تركته، وأعود عشية ليستقبلني بحرارة تنسيني كوني وحيد أمي وأبي، وقد حدث أكثر من مرة أنني عدت إلى البيت قبل أن أصل إلى المدرسة أصلا، وفي فمي كذبة كبيرة أولى: لم يأت المعلم اليوم، أما الكذبة الكبيرة الثانية، فهي للمعلم العزيز في الغد: مرضت أمي. لقد غيّبتُ بسبب الخروف معلمي، وجعلت أمي تمرض أكثر من مرة. بات عمره عاما كاملا، بات كبشا كاملا، وبات استعدادي لأن أحتفل بعيد ميلاده الأول كاملا، وستكون الفرحة بذلك فرحتين، فرحة عيد الميلاد، وفرحة عيد الأضحى. عاد جدي من الجامع البعيد، وقد صلى صلاة العيد، احتشدنا نحن أطفال العائلة عفويا لنشهد طقس الذبح، كنت قد نسيت أن جدي قد قال لي قبل عام إنني سأكون أنا الذابح هذه المرة، لذلك فقد تداخلت ركبتاي حين ذكّرني بذلك، ثم صرت بلا ركبتين حين أخبرني أن الرأس المعني بالذبح هذا العيد هو رأس خروفي... لكم أن تسبوني.. لأنني سأتوقف هنا. [email protected]