ألقى السفير الدكتور مصطفى بوطوره محاضرة بعنوان: الجزائر وقضايا التحرر، أكد خلالها أن مسيرة الديبلوماسية الجزائرية الداعمة لحق الشعوب في تقرير المصير في أي مكان في العالم تدعو إلى الافتخار والاعتزاز، ودعم أقواله من خلال استعراض بعض المحطات التي تعبر عن أداء وسلوك الدبلوماسية الداعم لحركات التحرر في العالم وكمثال على ذلك استشهد بثلاث حالات هي قضية فلسطين، الصحراء الغربية، مناهضة نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا. وحول الموقف من قضية فلسطين أبرز الدكتور الأدوار الحاسمة والداعمة لقضية فلسطين منذ أول قمة عربية حضرتها الجزائر عام 1964 أي بعيد استقلالها مباشرة، حيث دعت إلى ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من إنشاء كيان وجبهة تحرير وطنية، وهو ما تمت الموافقة عليه بالفعل بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري الذي دافع عن الثورة الجزائرية عندما كان ممثلا للمملكة العربية السعودية في هيئة الأممالمتحدة، وكانت الجزائر قد افتتحت مكتبا لفلسطين عام ,1963 أي بعد أشهر قليلة من استرجاع استقلالها وهو الأول من نوعه في العالم كله، وقد كان نافذة مهمة ومنطلقا للتعريف بالقضية الفلسطينية بدعم تام من الجزائر. وفي الاتجاه ذاته، يقول المحاضر، قامت الجزائر بدور حاسم في القمة العربية السادسة التي احتضنتها في سبتمبر 1973 تكلّل بالموافقة على اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد ولم يتخذ هذا القرار في قمة الرباط عام ,1974 كما تشير بعض الأدبيات الصحفية العربية وغيرها، وحتى الجزائرية منها. وفي هذا السياق قام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بدور رائد بصفته وزير خارجية الجزائر وقتها ورئيس الدورة ال 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة حيث مكن السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من المشاركة في اجتماعات هذه الدورة وإلقاء كلمته المشهورة -رغم مختلف الاعتراضات الكبيرة على ذلك - وهو استثناء حظيت به أول مرة شخصية ليست رئيسا لدولة. وقدمت الجزائر الدعم الكبير للمقاومة الفلسطينية وزودتها بالأسلحة اللازمة التي اندلعت بها الثورة الفلسطينية في أول جانفي 1965 واستمر الدعم بكل الأشكال، ونظرا لعدم إمكانية تتبع تفاصيل الدعم على كل الجبهات، في محاضرة زمنها محدود، فقد فضل المحاضر الاكتفاء ببعض الأمثلة فقط ومنها الدور الذي قامت به الدبلوماسية الجزائرية على مدى حوالي أربع سنوات من 1983 إلى 1987 بإصلاح ذات البين بين الفصائل الفلسطينية على إثر الانشقاق الخطير الذي شهدته منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح والذي وصل إلى حد إنشاء تنظيم بديل يسمى - جبهة الإنقاذ الفلسطيني بدعم من سوريا، وهو ما رفضته الجزائر جملة وتفصيلا واعتبرته ضربا للمكاسب التي حققتها الثورة الفلسطينية وظلت تواصل مساعيها الحميدة إلى أن تكللت باحتضانها الدورة ال 18 للمجلس الوطني الفلسطيني تحت شعار: دورة المصالحة الوطنية، ما بين 20 - 25 أفريل ,1987 أسست نتائجها لمرحلة جديدة من النضال وأعادت منظمة التحرير الفلسطينية قوية سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي وفي الوقت ذاته بذلت الدبلوماسية الجزائرية جهودا شاقة ومضنية لا تقل تعقيدا باتجاه وقف الحرب المدمرة التي شنت على المخيمات الفلسطينية في لبنان -85 - 1987- سواء في بيروت أو في جنوبلبنان ورفضت كل الذرائع والحجج المقدمة لتبرير الحرب وقامت بمساع عديدة ذات أبعاد معقدة لدى القيادة السورية، ومع الأطراف اللبنانية المتورطة مباشرة في حرب المخيمات ، وكانت المبادرات العديدة التي قدمتها الجزائر تستند إلى ضرورة حماية الثورة الفلسطينية وتعزيز العلاقات النضالية الفلسطينية (اللبنانية) واحتضنت اجتماعات المجالس الوطنية الفلسطينية عندما ضاق عليها الأمر ومنها دورة المجلس التي أعلن خلالها عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة يوم 15 نوفمبر 1988 والتي اعترفت بها الجزائر في حينه، وقبلها احتضان القمة العربية الاستثنائية في شهر جوان من السنة ذاتها بدعوة من الجزائر لدعم الانتفاضة الفلسطينية وما زالت الدبلوماسية الجزائرية بتوجيه من فخامة الرئيس بوتفليقة على العهد باقية في ممارساتها على كل الجبهات وتؤكد دوما على التمسك بتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير واسترجاع أراضيه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهي تجدد باستمرار دعمها اللامشروط لمطالب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وهذا ما أوضحه مؤخرا وزير الشؤون الخارجية رمطان لعمامرة بمقر وزارة الخارجية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. ومن جهة أخرى، تطرق المحاضر إلى دعم الجزائر ودبلوماسيتها بشكل دائم ومبدئي لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير ورفضها لسياسة الأمر الواقع في قهر الشعب الصحراوي ودعمها المخلص لجهود الأممالمتحدة والمبعوثين الخاصين للأمين العام للهيئة الدولية بما يضمن تطبيق مخطط التسوية الأممي الذي صادقت عليه كل الدول الأعضاء بما فيها المغرب، والجزائر تعمل من منطلق أن قضية الشعب الصحراوي هي قضية تصفية استعمار وفقا للقرار الأممي 1514 الصادر يوم 14 ديسمبر ,1960 ولمن يراهن على أن تغير الجزائر موقفها بطول الوقت فهو واهم، وهذا ما أكدته مؤخرا رسالة فخامة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة إلى مؤتمر المجتمع المدني المنعقد في أبوجا بنيجيريا، حول حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، بأن مواقف الجزائر ثابتة وصارمة بالنسبة لهذه القضية، والإتجاه ذاته أوضحه وزير الخارجية رمطان لعمامرة الذي أشار إلى أن الجزائر تميز بوضوح بين مسألة الصحراء الغربية التي تندرج في إطار تصفية الاستعمار وبين العلاقات الثنائية مع المغرب التي تحكمها اتفاقات وقواعد سير مكتوبة أو ضمنية، سواء كانت خاضعة للقانون أو لتاريخنا المشترك ولا يجب انتهاكها. أما في ما يتصل بالموقف من نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا فقد أكد المحاضر على أن الدبلوماسية الجزائرية قد أبلت البلاء الحسن في مناهضة نظام التمييز العنصري بقيادة الرئيس بوتفليقة، الذي كان له دور مشهود اتسم بالحنكة والذكاء والحكمة ، خاصة عند رئاسته للدورة ال 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 للدفع باتخاذ قرار بتعليق عضوية نظام الميز العنصري في الهيئة الأممية وكان ذلك بالفعل إلى حين سقوط هذا النظام. وقد اعتبر أغلب الملاحظين وقتها هذا القرار نصرا كبيرا للدبلوماسية الجزائرية وللرئيس بوتفليقة شخصيا، ونظرا للعلاقة المتجذرة مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منذ 1961 من خلال الزعيم نلسون مانديلا وعلاقته بالثورة الجزائرية ، وهو الذي ترجم وفاءه للجزائر بزيارتها مباشرة بعد إطلاق سراحه عام 1990 بعد 28 عاما من السجن، وفي ظل التحول الجذري في جنوب إفريقيا، فقد انتهى نظام التمييز العنصري إلى غير رجعة. وعلى خلفية هذه العلاقات النضالية تعززت العلاقات الثنائية بين البلدين اللذين أصبحا يشكلان دعامتين رئيسيتين لدعم التعاون الثنائي وتطويره وبناء إفريقيا الحرة الأبية ولهما تأثيرهما الدولي الجلي في ظل تعاون استراتيجي نؤطره لجنة عليا للتعاون المشترك برئاسة رئيسي الدولتين. وما يزال النضال مستمرا في فلسطين وفي الصحراء الغربية من أجل الحرية والانعتاق والعيش الكريم وما ذلك على الله بعزيز، ولا ينبثق الفجر المشرق إلا من الظلام الدامس وإرادة الشعوب من إرادة الله. وخلاصة القول، فإنه تبين بوضوح من خلال عرض المحاضر أن ممارسات الدبلوماسية الجزائرية في ما يتصل بقضايا التحرر وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها قد انسجمت تماما مع سياسة البلاد الخارجية المتأثرة بميراث عريق للحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر المجيدة، وهذه الدبلوماسية تستند إلى مبدأ ثابت ومتجذر لا يخضع للمساومة أو الحسابات السياسية الظرفية أو الكيل بمكيالين وأحسن مثال على ذلك هو موقف الجزائر المساند لقضية تيمور الشرقية رغم العلاقات الممتازة مع الدولة المعنية بتيمور وهي اندونيسيا، كما ساندت الجزائر كل حركات التحرر العالمية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وغيرها، ولأن تمسك الجزائر بدعم ومساندة الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها لم يأت من فراغ كما أشرنا سابقا وأنه لا يمكن لها أن تتخلى عن المبادئ الإنسانية التي اعتمدتها لتحقيق استقلالها واسترجاع سيادتها عندما يتعلق الأمر بشعب آخر يقاوم الاستعمار ويسعى للتحرر والانعتاق سواء بعد هذا الشعب أو قرب. من محاضرة ألقاها السفير الدكتور مصطفى بوطوره بجامعة هواري بومدين للعلوم والتكنولوجيا يوم 17 ديسمبر 2013 بمناسبة الاحتفال بالذكرى ال 53 لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 والذكرى ال 53 للقرار الأممي 1514 حول حق الشعوب في تقرير المصير.