ما أن دخلت الفضاء الساخن من الحمّام حتى استقبلني الصهد، كان ساخنا إلى درجة تطرد أصحاب الحساسية من الحرارة الزائدة طردا، سألت عن الأمر فقال لي أحدهم إنها حرارة متعمدة من طرف صاحب الحمام حتى يجعل من يدخله يخرج سريعا، وهكذا يضمن أكبر عدد من الزبائن، إنه لا يتعامل معنا على أننا بشر بل دراهم، ولو استطاع أن يأخذ منا دراهمنا من غير أن ندخل حمّامه لفعل. إنه الغش يا بني بتنا نجده عند الحمامجي والخضار حيث يعمد إلى رش سلعته بالماء حتى تزيد في الميزان، وعند الحلابجي حيث نجد أنفسنا قد اشترينا في الحقيقة ماء أبيض لا لبنا أو حليبا، وعند الناقلين حيث يعمدون إلى سردنة مركباتهم حتى لا يستطيع الواحد تحريك رجله، وعند الجزار والشواي، فنحن الجزائريين في الحقيقة لا نشتري لحما أو كبدا بل شحما وعظما باسم اللحم والكبد. خفت أن أعطيه أذني أكثر فيوغل في سرد تجليات الغش في يومياته يومياتنا جميعا، وأخسر متعة الحمام، للحمام متعة يجب ألا أعكرها بالاستماع إلى هذا المواطن الذي يبدو أن التذمر قد بلغ منه منتهاه. سألته: ما مهنتك؟، فقال إنه بائع زيت الزيتون، قلت: وهي تجارة يكثر فيها الغش أيضا يا عمي، قال: والدليل أن كل من يقصدني يطرح علي هذا السؤال: هل هي حرة؟، ما كانوا ليسألوا لو لم يلدغوا بالغش كثيرا يا بني، ما اسمك؟، قلت: اسمي رزيق، قال وهو يمسد على كتفه الأيسر: لقد بات الجميع يغش الجميع، لذلك فالجميع بات لا يثق في الجميع وهذه مصيبة الجميع. تدبرت بصعوبة حيزا لي، وكذلك فعل صديقي الكاتب عبد الحميد إيزة، ورحت أغرق في نفسي، ما أروع أن يغرق المرء في نفسه في حمّام في يوم ممطر في بداية حملة انتخابية مفتوحة على كل الاحتمالات، برودة في الطقس وبرودة في الحملة وبرودة في العلاقات. تخيلت أن هناك حماما لغسل القلوب والأرواح مثلما هناك حمّام لغسل الأجساد، ترى لو كان موجودا هل كان سيكتظ بالزبائن مثل الثاني؟. الشباب أقل تحملا للحرارة من الشيوخ لذلك فقد كانوا يمكثون في الفضاء البارد أكثر مما يمكثون في الفضاء الساخن. الشيوخ يتسلقون أجسادهم معتمدين على أنفسهم في تنظيفها بينما يحجز الشباب الكياسين مباشرة عند الدخول، ولست أدري هل ذلك اعتماد على النفس أم توفير للنقود أم هرب من غش الكياسين. الشيوخ أكثر حرصا على ستر ما يعدّ عيبا في الجسد، بينما يتساهل الشباب، بل إن بعضهم لا يراقب حتى العيب الذي يخرج من الفم، لماذا بات كلام الشاب الجزائري لا يخلو من ذكر العضو التناسلي عند كل عبارة وكأنه الوحيد في العالم من يملك ذلك؟، صاح شيخ عرفت فيما بعد أنه خدم في حرب الهند الصينية: أحشمو شوية.. رانا كبار عليكم، شعرت بالخجل منه فأغرقت نفسي في نفسي أكثر، ورحت أحاور أبطال روايتي الجديدة رقصة اليعسوب والتي شرعت في كتابتها قبل أيام. مقطع صغير من الرواية على لسان باية: أنا فقدت ثقتي في كثير من مميزاتك لكنني ما زلت أثق في ذكائك، ليتك كنت غبيا ليسهل عزلك أيها السلطان، لكن لماذا لم تبق وفيا لحسّ ذراعك الذي لم يردع يدي مثلما بقيتَ وفيا لقصر أجدادك؟، لا زلتُ أذكر رغم مرور سبع سنوات حرارة إطباقه على يسراي، لم أكن يومها استشرافية جيدة لأدرك مصير يد يسرى تحت ذراع أيمن، مثلما لا أدرك الآن مصير هذه الرسالة، كل ما كنت أدركه أنني في حضرة السلطان، وعلي التزام الخضوع، ياه.. ليتك كنت أنثى لتعرف لذة أن تخضع لرجل حقيقي.