صرت أزور مدينة معسكر كثيرا، أمتص روح المكان، وألامس ملامح الإنسان، وأختلي بنفسي في مسرح القوس، أحدثها وتحدثني، ونحدث معا روح الوجود فينا، فمعسكر هي الفضاء المكاني لروايتي قيد الكتابة توابل الثعلب. وقد صارت لي عادات في هذه الزيارات، منها أني أتجه رأسا وقلبا إلى ساحة الأمير عبد القادر وسط المدينة، والتي فيها تمثاله، أحدثه شطرا من الوقت، ثم أنخرط في دبيب المدينة، لمعسكر دبيب أجده مختلفا تماما، دبيب ذكاء فطري عميق، أكّدته لي احتكاكاتي بإنسانها في أعماره وأطواره المختلفة، ومن المفارقات أنها تحتكر المراتب الثلاث الأولى في نتائج البكالوريا، بالموازاة مع تنصيبها عاصمة جزائرية للغباء، أي مخبَر خطط لذلك؟ أي سياق؟ أي غرض؟ وها هو الشارع الجزائري منذ ثلاث سنوات على الأقل، بدأ ينسحب من التنكيت على معسكر؟ هل لاحظتم ذلك؟ فشكرا لصدر الإنسان المعسكري، على أنه اتسع لنكتنا في عز حاجتنا إلى الضحك، زمن الموت والتخريب والدمار، هذا وحده كافٍ، لأن نحترم روحه، ونعمل على اكتشافها، والاستفادة من أسرارها. وصلت إلى معسكر يوم الخميس 06 مارس الجاري غروبا، قال شاب سوري كان معنا في سيارة الأجرة: ما أشبه هذه المدينة بريف دمشق، هو قالها وأنا كدت أن أنوب عنه في البكاء، فأنا مثقوب بوجع الإنسان السوري، وخوفي على سوريا، وأخجل بهذا الزمن العربي والدولي البائس في تعامله مع أوجاع الإنسان، لاحظوا كيف أن الزمن العربي والدولي تشابها في الرداءة، فاختارا لهما ممثلا واحدا. عميقة جدا تلك اللحظة التي تقف فيها أمام تمثال الأمير عبد القادر في عاصمته، وأنت خارج توا من الحديث عن دمشق، لقد أحب المدينة وأحبته حتى صار الواحد منهما يدل على الآخر، لا خير في محبوب إن لم يدل على محبوبه. رفعت عنيّ إلى عينيه، كانتا غائبتين لأن الذي نحت التمثال كان أعمى، وإلا كيف يغيّب عينَيْ الأمير عبد القادر؟ من الأعمى؟ النحّات أم الجهة الرسمية التي كلفته بالمشروع، أم الإنسان الجزائري خاصة الفنان لأنه لم يع بعد واجبه في رفض الرداءة؟، أي زمن جزائري هذا الذي باتت الرداءة تجد فيه من يدافع عنها؟ لم أدر هل أشكو للأمير حزني على سوريا، أم حزني على الجزائر، أعادتني كوكبة من الأطفال كانت تلعب الغمّيضة، وكان الطفل الذي يختار أن يغمض عينيه يتخذ من قاعدة التمثال موضعا لرأسه، فخرجت من غرقي، كانوا يلعبون بعمق. قال لي صديقي الموسيقي والمعماري جواد إنه يحلم بأن يعود إلى زمن الطفولة، فقلت له إنه يجب في هذه اللحظة أن نفكر جديا في ألا ندخل هؤلاء في زمن بائس كالذي نتجرعه نحن اليوم. أنا شاب عمري ستة وثلاثون عاما أيها الأمير، ولازلت حتى اليوم لم أحقق حلما أغار من الآخرين، وهم يمارسونه باعتباره حقا، وهو أن يكون لي رئيس أنتخبه أنا، ولا يُنتخب لي، لماذا ينوبون عني في اختيار من يحكمني أيها الأمير، منذ خرجت فرنسا من هذه الأرض؟ لقد بات من المنطقي جدا أن أعتبر أنا الجزائري انتخاب تقرير المصير في 1962 هو الانتخاب النزيه الوحيد، والدليل أن النتائج كانت كما أرادها الشعب الجزائري: نعم للاستقلال، رغم أنه خيار منافٍ لرغبة المشرف على عملية الاقتراع: فرنسا. يا أيها الأمير إن الرئيس الحالي جاء في ظرف حساس، كان يقتضي أن نضع حدا للموت الذي حصد منا عشر سنوات وآلاف القتلى، فاخترناه، وحتى من لم يختره قبل باختيار من اختاره، لأنه وعد بالمصالحة، وهذا الذي كان، انسحب الموت كثيرا، وتقدمت الحياة قليلا، وبتنا نبرمج يومياتنا عليها لا عليه. عمل هذا الرئيس ما عمل، ولم يعمل ما لم يعمل، على مدار خمسة عشر عاما، لكنه يرغب اليوم في عهدة رابعة، وهو مريض، مريض أيها الأمير حتى أنه لم يُسمعنا صوته، ولم يرنا حركته منذ سنتين، في البداية خفنا عليه، وها نحن اليوم بسبب إصراره على الترشح نخاف على الوطن. والموجع أن خوفنا هذا على مستقبل البلاد والعباد، تم التعاطي معه رسميا بصفته خيانة، أنت خائن إذا رفضت العهدة الرابعة، وأنت مواطن صالح إذا قبلت بها، وستكون محظوظا إذا وصلت إلى مقام التطبيل لها، بل إنك إذا فعلت ذلك تملك الحق حتى في أن تسب المعارضين، وتلعن أجدادهم. كيف نسمي مقاما يعانق الخوفُ فيه التفاؤلَ أيها الأمير؟ فأنا خائف على المستقبل الجزائري، ومتفائل به في الوقت نفسه، أحيانا يغلب الخوف، وأخرى يغلب التفاؤل، وأحيانا يتساويان داخلي؟برد.. برد.. برد أيتها الروح... أيها الجسد، من أين جاء كل هذا البرد فجأة، فقد دخلتُ المدينة، وروح الربيع تلبسها؟ دخلت إلى قاعة التدريبات بدار الثقافة أبي راس الناصري، فوجدت صديقي المخرج المسرحي ربيع قشي مع ممثليه، كانوا جميعا يعانون البرد الروحي والجسدي، هذا داخل النص وليس خارجه، ويحلمون بالدفء، أين أنت أيها الدفء؟ كدت عفويا أن أصرخ معهم، ألست جزائريا؟ إذن أنا بحاجة إلى دفء الحرية.