(تابع).. أنت أيها التمثال الحجري، لماذا تعاركني بملامحك الصوفية ..تعيدني إلى ذلك الزمن المشبوه.. المتمرغ على قهر الآهات وانتهاك العدو .. لم أكن لحظتها قد وعيت بدقة ماذا يعني الوطن .. كنت و فقط أنساق وراء الواجبات ..الثورة ..التّضحية.. وحده الحب الذي بقي مهمشا في حياتي ووحده باقى الإنسان ينزف داخلي بقوة..ووحدك أيها التمثال من تعيش غربة المكان .. كل الناس تعيش أيامها إلا أنت تعيش بدفء عبق الذكريات التي لم يبق منها إلا قلب ينبض آها و ألما على زمن بعيد .. كل الناس منغمسة في واجباتها من أجل لقمة العيش ،أو من أجل الموت ، صرت لا أدرى بالضبط ما تريده هذه الجموع في الحياة..لماذا تستعجل الناس أقدارها ، على الرغم أننا نسير بخطى ثابتة نحو الفناء ..حتي الموت يسميه البعض واجبا .. سيق الوطن و معه التمثال المتروك شاهدا على المدينة نحو السجن ..قالوا أن السجون فاضت بحيويتها ..هناك في السجن تضمن كل يوم وجبة غذائية تنعش بها بطنك المظلوم بعد موتها جوعا ،و مكان يقيك من الضياع .. في الخارج أضحت الحياة تواطؤ ..لم نفهم إلى الآن لماذا فجات جفت تلافيف الجبين رحمة..كا الناس هاجرتها صوب قوتها ..الكل نصب على بيت خلية أمن ..العين هنا في وطني لا تنام ملأ جفونها ..حتي أنت أيها التمثال أراك من علا الشرفة تدير رأسك و تلفلف جسدك مخافة أن يتنكر لك بعض الشاهيد ، أنت أكثر القمم شهامة .. على كرسي الإعاقة كنت كل ليلة أخرج على وجل .. أهل القرية يعرفونني صغيرهم و كبيرهم ..لأنني عندهم تمثالا عن زمن بائد .. تلك هي نظرتهم البريئة ، ولسان الحال عندي ..أين أنت يارجلاي لتشاهدي هذا الوطن الذي انفجرت لأجله، أين أصبح.. أوهن القلاع .. أخرج لا لشيء ..فقط لأبصر نحو الأفق ، أراقب الماضي البعيد ،أسير على ذلك الكرسي و الدنيا تعرض لي موسيقاها الجديدة ..آخذ مكاني كعادتي في المقهي المحاذية للطريق الوطني رقم 28،لأجل دقائق ثم أنصرف و أحد الفتيان يجر الكرسي .. هو رياض أحد الجامعيين الذين تخرجوا من الجامعة الجزائرية في فترة السبعينيات و عاذ إلىو الوطن كما يقول ليستفيد البلد من خبرته يقول و الحصرة تحاصر وجهه الطفولي .. ترى لماذا نقتل بعضنا يا عم قادر . .بل قل لماذا نقتل أنفسنا.. ألم تسمع مقولة أبي حيان التوحيدي يقول إن الإنسان أشكل عليه الإنسان ، ألم تقرأ قول الحكيم إذ يقول مصيبة المرء في نفسه .. و هؤلاء المساكين ..الذين يطلعون علينا كل كل يوم ليشخصوا حالنا ،يشتغلون في فقط في كب الزيت ..هل يفهمون أننا نعاني مشكلة فقر عاطفي ..أزمتنا يا ولدي أزمة حب ..أن تسكن إلى قلبك يعني أنك توصلت إلى درجة تكون معها إنسانا ..أنت مثلا .. رياض متحيرا ..مابي ياعم قادر.. لا تخف ياولدي إنه مجرد حديث .طيب اسمع و لا تقاطعني .. أعرف والدك سي مصطفي و جدك الحاج علي منذ قبل حتى ما تولد ، بل قل قبل أنت تكون مشروعا لزواج تقليدي ..والدك هل تعرف قصته .. إيه..عم قادر أبي مات و ماتت معه كل ذكرياته ..أنت تعرف أنه قتل شهيدا في الثورة .. اسكت يا ولدي لا تثر أمامي هذا المصطلح ..فكلما تذكرته إلا عادت إلي خطوات فنائي .. طيب ياعم ، قلت والد ..قص علي بعض ملامحه فأنا لا أكاد أركب صورته ، بل لا أكاد أجمع خيوط وجهه ، إلا من خلال الصورة التي رأيتها عندك ذات مرة .. لقد أصبح الوقت مناسبا لأن أعطيك منها نسخة يا ولدي .. المهم ..و قبل أن تاصل به ..كان من الجامعيين القلائل في ذالك الزمن ..أحب فتاتا ايطالية كانت تدرس معه و اسمها جاكلين ، عاش معها أحلي لحظات عمره ..و قبل أن يموت أعطاني كل الرسائل التي كانا يتبدلانها أثناء العطل ..يعني أنت تعرف مرحلة الشباب و من هذه الرسائل التي أصبحت ملكا للتاريخ و ملكا لك ..بحكم أنك والد رجل تاريخي عظيم لا يجوز أن تخرج مثل الأوراق ..فقط يجب أن تحافظ على سيرته و أن تسير في خطه ..هكذا هي الأقدار يا ولدي فلا تبتئس ، فنحن لا نختار آهالينا لأنها ببساطة لعبة الدنيا .. و بعد ياعم قدور ماذا حدث .. لا تستعجل يا ولدي فما أقصه عليك إلا مشاهد من تاريخ طويل، وككل القصة مكتوبة بخط والدك في كراسة صغيرة..احتفظت بها لتكبر وتكون في حجمها .. احذر أن تصدق غير أن والدك كان رجلا عظيما و بطلا مغوارا ..أعطي لهذا الوطن كل شيء حتى حبه أنفقه فيه ..بعد أن قرر والدك ترك الدراسة ليساهم في عمله الجليل ، كنت أيامها أنا المسؤول على التدريب ومازال والدك حينها شابا في الثلاثين من العمر ..كله حماس و إيمان بالقضية ..هو الجامعي المثقف الواعي.. أهدي مع الترحيب بكل ملذات العيش ..إلا إمرا واحدا كتمه و لكن لم ينساه على الرغم من أنه لم يستطع كسر رغبة والده في الزواج من ابنة عمه وردة إلاّ أنه لم ينسى أنه أحب مرة واحدة في قلبه، أعترف أن والدك الوحيد الذي كان يؤنسني في تلك الأيام ... يكلمني عن جاكلين وأحدثه عن فرنشيسكا التي انقطعت بها علاقتي منذ سنوات .. نحن الآن في العام الرابع من الثورة ..كان والدك كثيرا ما يذكر إسمها في المنام... وتنبه بعض الإخوة للأمر ليفاجئ مرة بتوقيفه عن مهامه و استدعاءه من قبل قائد المنطقة ، و في عريضة الكلام اتهام صريح لوالدك بالتجسس..أي أنه كان يراسل فتاة اسمها جاكلين وينقل لها أخبار عن مشاهد الجبل .. لا أنكر أنه في البداية لجم وخرص، لسبب بسيط أنه لم يكن يعلم أن أمر حبه ، سيصبح اتهاما له ..خاصة وأن هذه القصة لا يعلمها إلاي .. نظر إلي و قال ماذا يحدث قدور .. قلت له لا تخش شيئا ..إنها أسئلة عادية لأول مرة أكذب على صديق ..لأنه لولا سعي مع القادة لكان الأمر يصل إلى تهمة الخيانة .. و طلب منه المسكين الحديث عن الأمر بالتفصيل وعن علاقته بالمدعوة جاكلين ..و بعد التحقيق ، اكتشف أن أحد الإخوة كان يخشي أن يقود الحب الأعمي في نظره والدك إلى كتابة رسالة إلى العشيقة وينقل لها بعض الأخبار اللاإرادية وتحت عماء الحب، فيلتقطها العدو، بمعني أن القضية التي استمرت شهورا تتجاذب فيها القلوب الهواجس لم تكن سوى ظنون .. أرأيت يا ولدي أن الحب صار تهمة حتى في أنقي لحظات العمر و كيف أن الثورة سلبت والدك جوفه .. فالثورة يا ولدي تعني تماما الحب،العشق ..طريقة لا يفهمها إلا كبار العشاق ولكن هناك حلقة مفقودة في القصة يا عم قادر .. لا تكمل يا ولدي كل هذا الزمن يعادل الضياع ،و أنا تعبت ، لنصل أمام باب المنزل..الحقيقة أن الباب كان بالنسبة لي آخر محطة للهروب .. سأراود نفسي غدا لأكمل لهذا الفتي قصة والده الحزين ..حتى التاريخ الذي أصبح يبعد عنا بآلاف الأميال بات يشكل الخوف.. لماذا يا ترى لم أستطع أن أفضحك يا سي مصطفي أمام ابنك؟ هل تراني أحسست بنفس الذنب الذي اقترفت في ولدي الوحيد لزهر حين أخفيت عنه سر حياتي ؟ تفاصيل الإنسان الذي يناديه صباح مساء أبي .. لا أدري... لماذا أحاول في هذه الرواية أن أفضح نفسي.. أتراني أضمن أنه لن يقرأها قبل موتي، قبل رحيلي، وما هي جدوى الحقيقة إذا أصبح أصحابها في عداد القبور ؟ ها نحن اليوم نقرأ عشرات الكتب التي سماها أصحابها مذكرات ليذكروا في شهادات كثيرة و فقط عن أناس قد رحلوا عنا ،ما تفيد الكتابة بعد الموت.. ولكنِّي أعود إلى الشّجاعة ..لا أريد أن يراني ولدي أبدا غير الصخرة التي حطمت الأمواج..لا أريده أن يكتشف أني خنت أمه مع قصة أخرى.. بل لا أريد أن يتهمني بالتحايل ..فأنا لم أختر قصتي و إنما القصة من قذفتني على أمواج الفضيحة، وإن بعد الموت فلا يهمّني كعشرات من الشهادات اليوم التي أصبحت تتهم رجالا كان مجرد الظهور معهم في الماضي يشكل امتيازا و نجاحا و لكن هل بقيت سلطة العمر..؟ لم أشته أبدا أكل اللحم نيئا ما بالك إن كان جيفة.. ولدي العزيز إن قرأت ذاكرتي هذه فاعلم أنني لم أخن أمك بل العكس.. هي من دخلت حياتي رغم ما أريد.. وحدها فرنشيسكا التي دغدغت ضلوعي ولازال حبها إلى الآن ينخرني بقوة يفتت باقي الاشتهاء .. لم أعلم أنها سكنتنى إلى هذا الحد ..اتخذت جسدي بيتا لها على مدار السنوات الطويلة، لم أشعر يوما بغيرها داخل جُبتي ..كانت و فقط تبادلني الاحترام بل الحب إلى أن كانت الثورة فحرمت جسدي المقهور من أن يفرح قليلا.. ما أعظم الثورة إذ نترك لها أعز الأماني ..كانت لامرأة أخرى أكثر إغراءا وشهوة.. إنها الوطن ..