ما قيمة الجمعيات الثقافية والأدبية، وما مقدارها، الله يرحمك يا محمد بوليفة، ويذكرك بالخير يا سليمان جوادي، إذا لم تثبت وجودها حتى في المناسبات التي تعدّ محطاتٍ سنوية للاحتفاء بالشخصيات والاهتمامات الثقافية التي تعني الجميع؟ فها هو اليوم الوطني للشعر، المصادف للسابع عشر من شهر أوت، يمر مرور الأيتام، رغم توفر الساحة على مئات الواجهات الثقافية والأدبية التي يُعدّ الاحتفاء بهذا اليوم الرمزي من صميم اهتمامها. ما معنى أن يمر اليوم الوطني واليوم العالمي للشعر، من غير أن تحتفل به واجهات، مثل اتحاد الكتاب الجزائريين، والمكتبة الوطنية الجزائرية مثلا؟ لاحظوا: لم أقل اتحاد الفلاحين الجزائريين، أو الاتحاد الوطني لألعاب القوى، بالمناسبة: لماذا لا نسند مهمة الاحتفاء بمثل هذه المناسبات، لمثل هذه الجمعيات والروابط؟ فقد نجد من التفاعل، ما لم نجده من الجمعيات والروابط المعنية بها مباشرة. لا شك في أن بعض من يقرأ هذا الهاجس سيقول إنني كائن رومانسي، يسبح في الأحلام الوردية، في ظل واقع جزائري غارق في زبالاته وحالاته المؤسفة، وأنا أتفهم هذا، لكنني لا أتفهم أن تعجز نخبة مثقفة عن إثبات ذاتها في المناسبات المعنية بها، وتحاول تصدير اهتماماتها الصغيرة لمحيطها الصغير، رغم أن ذلك لا يتطلب منها إلا جهدا ووقتا صغيرين، ثم تنبري للشكوى والتذمر وانتقاد الواقع، كأن النخبة المحسوبة على الفن والثقافة في الجزائر، تنتظر من السلطة السياسية، أن تتولى هي نفسُها الاحتفال بالمناسبات والأيام الخاصة بها، مثلما بات المواطن العادي، ينتظر أن تتولى الحكومة تنظيف مراحيضه، وتحديد ملاعق الملح في طعامه. إن هناك واقعا جزائريا مؤسفا بات بحاجة إلى نقاش عميق، هو أن الشرائح جميعا استقالت معنويا من أداء وظائفها، وباتت تتخذ من طبيعتها واجهة لتحصيل المال، الدراهم.. الدراهم.. الدراهم، فالفلاحة باتت عند الفلاح الجزائري واجهة لتحصيل الدراهم، أما المضمون فلا أحد يفكر فيه، والحديث قياس على شريحة الفنانين والكتاب والمثقفين، يؤسسون جمعيات وروابط وتعاونيات، لا ليفعّلوا من خلالها المشهد الفني والثقافي، ويلعبوا دورهم في الاقتراح والتغيير، بل ليتخذوا منها مصبّا للفلوس. وجوه رديئة بتّ أجد شغفا وفضولا عميقين في نفسي برصد نفسيات وذهنيات وتصرفات الأشخاص غير الموهوبين الذين خالطوا جماعة الأدب، فباتوا يعتقدون أنفسهم كتّابا، ويتصرّفون على هذا الأساس، ولأن الساحة الأدبية في الجزائر، تفتقر إلى معاييرَ صارمةٍ، تحول دون وصول المغشوش إلى واجهتها، فقد صار بعضهم نافذا فيها، مستغلّا نفوذه ذاك في إقصاء وتهميش الأقلام الحقيقية، بل إنه صار في أحايينَ كثيرةٍ يمثّل المشهدَ الأدبي في منابرَ خارجيةٍ وازنةٍ، مما يعطي انطباعا بأن الجزائر متخلفة أدبيا. إن قلة الحياء والقدرة على تحمّل الصدمات الناتجة عن ذلك، هما الصفتان البارزتان في هذا الصنف، إذ لا يجد حرجا في تقديم نفسه ونصه، حتى في حضرة القامات الكبيرة، وإذا وجد حشمة منها، فإنه يتوغل في ادعاء صداقتها، والقول على لسانها إنها زكّتْ تجربته الإبداعية، وقالت فيها كلاما محمودا، والدليل ليس مكتوبا، بل صورا يزرعها في الفايسبوك، ومكالماتٍ هاتفيةً يجريها معها في حضرة من يريد أن يقنعهم بذلك. ولأن المغشوش حليف المغشوش، على وزن زالشاعر أخو الشاعرس كما قال رامبو، طبعا يقصد الشاعرَ الحقيقيَّ، فقد تحالف هذا الصنف مع أشباهه، وتبادلوا أنساغ الحضور، حتى صاروا أسيادَ الواجهة، متواطئين مع إدارة ثقافية لا تملك الخلفية الثقافية الكافية لفرز المبدع من الهزيل، ومنظومة إعلامية لا تملك النزاهة الكافية في التعامل مع المبدع دون الهزيل، والنتيجة: نطيحة ومتردية وما أكلت الرداءة. والحديث قياس طبعا على المسرح والسينما والتشكيل وهلمّ فنا. إن الفنون المسرحية والروائية والسينمائية خاصة، مدعوة للاستثمار جماليا في هذا الواقع الجزائري المنخور بروح الزيف والادعاء، بالاشتغال على ما يحفل به من نفسيات وذهنيات وسلوك، فقد اشتغلت على مدار عقود الاستقلال الفائتة على صورة الإنسان الثوري/ الحالم، ثم صورة الإنسان المهموم/ المتأزم، وآن لها أن تشتغل على صورة الإنسان المزيف، حتى تكون منسجمة مع التحول الحاصل في الحياة الجزائرية