منذ أن وجدت ما سموها ب: »عتبة الدروس» في قطاع التربية مكانا لنفسها انغرست فيه، لم تنقطع تصريحات السخط والذم التي تصدر من قبل وزارة التربية الوطنية ونقابات التربية والتعليم وجمعيات أولياء التلاميذ، وهم من أبرز الشركاء الأساسيين الذين يتداولون في قضايا الفعل المدرسي، ويتابعون مجرياته في جانبه التربوي. وفي المقابل، لم تتوقف مطالب المتعلمين المتقدمين إلى اجتياز امتحان شهادة الباكالوريا، في منتصف كل سنة دراسية، عن المطالبة الجائرة للاستفادة من »عتبة الدروس»، وكأنها حق مشروع لا يُتنازل عنه. وفي كل مرة، تظهر أن ما دعوها ب»عتبة الدروس» بمظهر قميص عثمان الذي تسعى كل الأطراف للمتاجرة به في جوانب سياسية، ومن أجل محاولة المحافظة على السلم الاجتماعي، وضمان استتباب هدوء الشارع حتى لا تهزه الاحتجاجات ولا تهيجه المسيرات المحرجة، أو رغبة في حصد فوائد مصلحية ذرائعية »براجماتية» وانتفاعية ضيقة. وكل صنوف هذه المطامع مثقلة بصوّر العبث والانتهازية والأنانية التي تغيّب قيمة التكوين المدرسي النوعي كرهان ينبغي كسبه بعد مقاومة كل الحواجز التي تعيق الوصول به إلى أعلى المراتب. قبل فترة زمنية تنقص عن شهر، لم يتورع المسؤول الأول عن التربية، وحسب ما جاءت به بعض الصحف، من القول بأن أسئلة اختبارات امتحان الباكالوريا ستكون سهلة نوعا ما مقارنة بأسئلة الدورات الماضية. ومثل هذا التصريح الذي يأخذ مظهر التطمين القبلي للطلبة الذين سيواجهون امتحان الباكالوريا يعتبر سابقة تمس بمصداقية هذه الشهادة، وترميها بحجر صلد يصيبها في الصميم؛ لأنها تنال من هيبتها وتزيح قداستها، وتدفع بالمتعلمين إلى التراخي والكسل، وتشجعهم على صرف أقل الأوقات وأدنى الجهود في المراجعة والمذاكرة والاستعداد. وإذا كانت القوانين تمنع منعا صارما على من يكلف بحراسة حجرات الامتحان من المعلمين والأساتذة من التعليق اللحظي على أسئلة المواد بعد إخراجها من المظاريف ووضعها على طاولات الممتحنين، فكيف يسمح الوزير لنفسه بأن يكشف عن سر مهني يهم مئات الآلاف من المتعلمين أمام وسائل الإعلام؟. وكيف لا يدري أن مثل هذا التصريح يسيء إلى منتوج المنظومة التربوية الذي لا يتجمّل إلا بالتجويد المتلاحق سنة بعد أخرى لأسئلة الامتحانات الرسمية. أفلا يفسر كلام الوزير بعد تأمله بأنه من صنف »الاعترافات الضمنية» التي تعبر عن التقهقر والتدني والتدحرج نحو الحضيض مهما كانت الدواعي التي أملته. وإذا استمرت التصريحات تتوالى على هذا المنوال من المكاشفة، أفلا يمكن لنا أن نتوقع، ولو للحظة، الحال الذي ستكون عليه منظومتنا التربوية في السنوات القادمة. ووقتئذ، يتعسر علينا أن نتكهن متى تعود أمورها إلى نصابها ورشدها صونا لحرمة الشهائد العلمية. ولا ننسى بأن التاريخ يعلمنا أن السير في الطرق السهلة والممهدة هو من أسباب النكوص والاندحار والسقوط في منحدرات العقم والشلل. بعد سنوات من هجرها وإلغائها، يجري التفكير، الآن، إلى العودة للعمل بالبطاقة التركيبية التي تلخص العلامات المحمولة عليها مجهود المتعلم في السنة الثالثة من التعليم الثانوي، وتتخذ كوسيلة من وسائل إنقاذه لنيل شهادة الباكالوريا. وترمي محاولة إحياء البطاقة التركيبية إلى محاربة الانقطاعات المتعمدة والطويلة عن الدراسة من طرف المتعلمين. وهي الظاهرة السلبية التي أصبحت تنتشر في الثانويات انتشار الأمراض المعدية مع اقتراب انتهاء الثلاثي الثاني من كل موسم دراسي. ويتوقع أن تصبح البطاقة التركيبية سلاحا حادا وقاهرا يشهّر في وجوه المكثيرين من الغيابات الذين يمنحون لأنفسهم بطالة متواصلة قبل حلول موعد العطلة الصيفية. وفي نظري، إن الاهتداء إلى هذا الحل هو أشبه ما يكون بالتطبيب بالأعشاب في زمن أصبحت فيه وسائل وأدوات العلاج متنوعة، ومنها حتى العلاج بالمغناطيس وأشعة الليزر. فكيف تهب رياح الحنين إلى البطاقة التركيبية التي ذمت في يوم ما بسبب نقائصها وقلة مصداقية العلامات التي تدوّن عليها، والتي يوزع معظمها استنادا إلى »معايير» زائفة يعتمدها الأساتذة المصابون في ضمائرهم، إذ يكفي أن ينضم متعلم خامل إلى حلقة ما يدعى بالدروس الخصوصية يقدمها أستاذ يعلمه في الثانوية حتى يظفر بعلامة مضخمة لا يستحقها. وفي المقابل، ويحرم متعلم آخر من علامة تناظر مستواه في التفوق؛ لأنه تخلف عن حلقة أستاذه خارج الثانوية لسبب أو لآخر؟. وقبل أن تعتمد البطاقة التركيبية كحل سحري، ينبغي أن نعترف أن قضية »عتبة الدروس» هي مشكلة شائكة وعويصة، ولها بذور نمت وتفرعت وتشابكت شروشها لما نامت الأعين الحارسة ردحا من الزمن. وأن مقاومتها لا تكون إلا بوسائل مشحوذة ترفض الطعن، وبقرارات صائبة تنفذ في جسارة. وهي من أنواع الأمراض المستعصية التي لا يشفى المصاب بها إلا إذا تجرع أدوية مرة ومرعبة. وتنطلق بدايات التصدي لها من تجفيف منابع مسبباتها الوبيلة والمتناثرة التي يمكن ترتيبها حسب درجة فداحتها وخطورتها. ينطلق رسم خطة القضاء على بدعة: »عتبة الدروس» من إتفاق شركاء المدرسة حول تكثيف وتوحيد جهودهم وضمها بعد إخلاص النيات للسير جنبا إلى جنب بأنفاس تغار عن سمعة المدرسة، وبعزائم موطدة أسقطت من معاصمها أغلال الانطفاء والانكفاء التي أوهنتها وأعجزتها عن إنجاز كل ما من شأنه أن يصحح مسار منظومتنا التربوية بعيدا عن الاستقطاب والاحتراب والتنافر في دجل بعد هجران زيف الأهواء وغبار الظنون وشكوك التخرصات التي تزيد من وعورة طريق الخلاص، وتبعد عن المخارج الآمنة. فهل سيلوح هلال الموسم الدراسي القادم ويكمل دورته ليتحوّل إلى بدر من دون أن يتعكر صفاء صفحته بسواد عتبة الدروس؟. ذلك ما سنحاول استشرافه في الحلقة القادمة من خلال معطيات حاضرنا.