يسألونك عن المواطنة، فيعييك البحث ويتعبك الوصول إلى الحقيقة، سواء تعلّق الأمر بواقع الحال الذي نعيشه أو بما يتعلّق بطرائق تنشئة الأجيال الصاعدة من الأبناء، بنينَ وبنات، لكونهم استثمارا بشريا مفيدا، ورأس مال اجتماعي وثقافي مريح في يوميات سياسة المجتمع الآنية والمستقبلية، ما يكون المعوَّلَ عليه لاكتساب الطموح الذي يظلّ يشغل بال الأمّة، التي تسعى جاهدة لأن تبلغ ذروة ما تصبو إليه من تطوّر وارتقاء، معتمدة على نفسها غير متواكلة، والتي تريد أن تلمس ثمرة ذلك في إنتاج أمن اجتماعي واعد متبوعة فيه غير تابعة لسواها. ولا ريب في أنّ من يفكّ لغز إعداد وتربية الأجيال الصالحة على نهج المواطنة الحقّة، هي التربية وما ينتج عنها كمنظومة مبادئ وقيم ومعايير تصوّر الواقع المُعاش والواقع المنظور برؤى مرجعية، اجتماعية، وثقافية، وحضارية مبنية على مفاهيم علمية في خصوصية الهوية والمواطنة، ذلك أنّه يكاد يحصل اجتماع مختصين في شأن المواطنة والمهتمين به والباحثين في مجال أنّ التربية على المواطنة مكانة محورية هامّة في البرامج التربوية المعاصرة المعدّة من قِبل المؤسسات ذات الصلة في الدولة الوطنية الحديثة، وأنّ الدراسات التي كُرِّست لمعالجة مفهوم المواطنة من حيث أنّ لها دلالات وأبعاد ومعانٍ خاصّة بها، وبخاصّة ما تمثّله تلك الرابطة الأزلية بين الفرد والدولة التي لا تكفي فيها شهادة ميلاد وعلاقة اكتساب الجنسية أو أصليتها، وإن كانت هي الأساس، وإنّما هناك أيضا ما يترتّب على المواطن من واجبات أساسية، سياسية وعملية تجاه الدولة التي من واجبها هي الأخرى أن تهيّئ المُناخ الملائم، وتفسح له المجال واسعا لممارسة ماله من حقوق ممارسة حرّة مسئولة بالطبع، تحفظ كرامته، وتحترم إنسانيته. في لقاء قصير جمعني به بمناسبة افتتاح السنة الدراسية الحالية، وفي دردشة قصيرة معه حول الموضوع كانت دردشة ذات شجون، إذ أنّه ولدراسة الظواهر فيها، تركَّزَ الحديث وطاب النقاش مع السيّد زهامل يوسفس عميد أوّل للشرطة منسّق أمن ولاية بسكرة، الذي صال وجال في الموضوع واضعا النقاط على الحروف، بشواهد وأدّلة ماثلة للعيان، وبخبرة المتمرّس الميداني المتفحّص لدقائق أحوال الناس وتصرّفاتهم. لقد كان عنيدا في حديثه عن المواطنة وهو يصفها على أساس أنّها ليست أنانية ذاتية أو مصلحة شخصية بقدر ما هي تضحية ونضال، وتلبية لنداء الوطن في كلّ الظروف والأحوال حسب الحاجة ووفق الخدمة. وراح يتحدّث بأسفٍ شديد عن موجة رفض أماكن مناصب العمل النائية من قِبل المعلّمات والمعلّمين، وحتّى من طرف الطبيبات والأطباء الجدد الطالبين للعمل، والتي صاحبتها وتزامنت معها الرغبات الملحّة وطلبات التدخّل في بقاء كلّ فرد من المدرّسين ومن الاستشفائيين في مكان عملٍ يختاره هو حسب شهوته ومنفعته، دون أن يراعي بضمير حيّ، ووعي إيجابي، وواجب وطني يقدّس المصلحة العامة التي تقتضي على كلّ فرد من المجتمع أن يقوم بالعمل الموكَل إليه في المكان المخصّص له طبقا للقانون وللمبادئ العامّة للعمل، وإن كان في البوادي والأرياف. يقول إنّ هذه الإخلالات في قطاعي التربية الوطنية، والصحّة العمومية، التي تتسبّب فيها المصلحة الشخصية المبنية على مفهوم )أنا وبعدي الطوفان( والتي تُحدِث شروخا عميقة في المنظومتين يصعب استدراك جبر كسورها في الوقت المناسب، لأنّها مضيعة للوقت وهدرٌ للمجهود الوطني المبذول من أجل وصف علاجات لما أفسَدَته مثل هذه السلوكات، التي ليست من المواطنة في شيء، بل لا تنمّ إطلاقا على ما يلزم أن يكون عليه عامّة الناس تُجاه المواطنة...!؟