في قاعة الخرائط بالبيت الأبيض ، وفي ساعة متأخرة ، اختار أوباما صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية ليشرح نظرته حول الشؤون العالمية التي تزداد خللا واضطرابا بدءا من الحديث عن العراقوسوريا وليبيا وإسرائيل والترويج المختصر لبداية انهيار منظومة شمال إفريقيا. الصحيفة أعطت للرئيس أوباما مؤخرا صفة القارئ التي يستمد خلاصاته من دروس كثيرة على امتداد الأعوام الستة الماضية، ولديه أيضاً أجوبة تنطوي على تحد لجميع منتقديه في السياسة الخارجية بتوظيفه لكلمات مختصرة كمفاتيح مبدئية لمسارات سياسية، دبلوماسية وعسكرية منها : لا غالب ولا مغلوب، والعمل معا .. آليات ومتى يكون التدخّل عسكرياً ؟ وضرورة امتلاك الأجوبة لما سيحدث بعد ذلك؟..والعمل مع الشريك بمفهوم الوكيل دون القيام بالأمور بالنيابة عنه .. والاستعداد لما يشهده الشرق الأوسط وأجزاء من شمال أفريقيا كبداية لانهيار منظومة تعود إلى الحرب العالمية الأولى. في سياسة لا غالب ولا مغلوب والعمل معا ، يمرر أوباما رسالته للأمريكيين بأن التهديد الاكبر لأمريكا يأتيها من الأمريكيين انفسهم كونها تشهد تطورات في موارد الطاقة الجديدة والابتكار وصولا إلى الاقتصاد الأخذ في النمو، وأنها لن تحقق أبدا كامل طاقاتها إلا إذا اعتمد الحزبان الأميركيان النظرة الاستشرافية نفسها التي تطلبها القوة العظمى من الشيعة والسنة والأكراد، أو من الإسرائيليين والفلسطينيين وفق لا غالب ولا مغلوب ، والعمل معا على إشراك مختلف الفرقاء. وفق ذلك المبدأ يوضح أوباما أنه لن يدفع بأميركا نحو تدخّل أوسع نطاقاً في أماكن مثل الشرق الأوسط إلا إذا وافقت الجماعات المختلفة هناك على ذلك المبدأ السياسي؛ غير أنه يرى في الانقسامات المروعة في الشرق الأوسط تحذيراً لأمريكا؛ مع أنها تبسط هيمنتها على المنطقة وتتهم في الوقت نفسه على أنها تعمل على إعادة تخطيط الشرق الأوسط بحيث تكون إسرائيل الدولة القوية والمستقرة في المنطقة . إسقاطات مبدأ لا غالب ولا مغلوب على النزاع الاسرئيلي - الفلسطيني تبدو أكثر وضوحا وشرحا وفق نظرة أمريكا التي تشيد بنتائج استثماراتها في إسرائيل بتعبير أوباما عن دهشته حول ما أصبحت عليه إسرائيل خلال العقود الماضية حيث أخرجتْ من الصخر بلداً نابضاً بالحيوية وناجحاً وثرياً وقوياً إلى درجة مذهله، وهذا شاهد على عبقرية الشعب اليهودي وطاقته ورؤيته ؛ وبما أن إسرائيل تتمتّع بإمكانات عسكرية هائلة، فهو ليس قلقاً على بقائها لكن ذلك لم يمنعه من إثارة عناصر تفكير جديدة في مصلحة إسرائيل و حول كيفية تأمين بقائها ، والحفاظ على تقاليدها الديمقراطية والمدنية ؟ ،وكيف يمكن الحفاظ على دولة يهودية تعكس القيم الفضلى لمؤسسي إسرائيل ؟ على حد تساؤله . ضمنيا ، إجاباته تؤكد الاختلال الكبير في التوازن بين الفلسطينيين والإسرائيليين لما تشكله تلك الأسئلة من أهمية أولية قبل البحث عن طريقة للعيش جنباً إلى جنب بسلام مع الفلسطينيين و الإقرار بأن لديهم حقوقاً مشروعة، وبأنها أرضهم ومناطقهم أيضاً. ودون أن يحدد أشكال وكيفيات الضغط من الداخل على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ، من أجل التوصل إلى اتفاق على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام ، راح ينوه بنسبة الاستطلاعات التي عززت مكانة نتنياهو نتيجة الحرب في غزة التي تجعله من الصعب تقديم بعض التنازلات بما في ذلك معالجة مسألة المستوطنات ، عكس أبو مازن الذي يصفه بالضعيف جدا أمام نتنياهو القوي جداً وهو ما يتعذّر جمعهما معاً والتوصل إلى قرارات جريئة على غرار تلك التي أبدى السادات أو بيغن أو رابين استعداداً لاتّخاذها ، وهذا يتطلب حسب أوباما قيادات تتطلع إلى أبعد من الغد في صفوف الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء ، ما يشكل أصعب شيء بالنسبة إلى السياسيين أن ينظروا إلى المستقبل البعيد في مقاربتهم للأمور. ما يتعلق بسوريا، فقد اعتبر الرئيس الامريكي أن مقولة تسليح '' الثوار'' كان ليحدث فرقاً هي مقولة واهمة منذ البداية. فمن الوهم إرسال بعض الأسلحة الخفيفة أو حتى الأكثر تطوراً إلى معارضة كانت تتألف في شكل أساسي من أطباء سابقين ومزارعين وصيادلة وما شابه، وإنهم سيتمكّنون من محاربة دولة مدججة بالسلاح بل أكثر من ذلك مدعومة من روسيا وإيران وحزب الله المتمرّس في القتال ، وحتى في الوقت الحالي تجد الإدارة الأميركية صعوبة في إيجاد كادر كافٍ من الثوار السوريين العلمانيين وتدريبه وتسليحه، فالإمكانات ليست بقدر التمني . لكن في العراق لو انتهزت الأكثرية الشيعية الفرصة لمد اليد إلى السنة والأكراد بطريقة أكثر فاعلية ولم تقر تشريعات على غرار اجتثاث حزب البعث لما كانت هناك حاجة إلى قوات خارجية غير أنه ولعدم استعدادها للقيام بذلك كانت قوات أمريكا ستصبح عاجلاً أم آجلاً في مرمى النيران. بنظر أوباما الذي يراجع كيفيات التدخل الأمريكي حسب موازين الضغط الداخلي أن هذا الأخير لا يمكنه أن يفعل لهم ما ليسوا مستعدين لأن يفعلوه لأنفسهم في إشارة إلى الفصائل في العراق بالرغم من تمتع جيش بلاده بقدرات هائلة تمكنه السيطرة على المشكلة لبعض الوقت ، لكن كي يتمكن المجتمع العراقي من تسيير أموره كما يجب في المدى الطويل على الناس أنفسهم أن يقرروا كيف سيعيشون معاً، وكيف سيستوعبون مصالح الطرف الأخر، وكيف سيتوصلون إلى تسويات في ما بينهم؛ عندما يتعلق الأمر بمسائل مثل الفساد على الشعب وقادته أن يحملوا أنفسهم مسؤولية تغيير تلك الثقافات . ولم يتوان في تقديم الرسالة التي وجهها إلى جميع الفصائل في العراق مفادها أن أمريكا ستكون شريكه لكنها لن تقوم بالأمور بالنيابة عنهم و لن ترسل جنوداً أميركيين من جديد لإبقاء الأمور تحت السيطرة. عليهم أن يثبتوا لأمريكا أنهم مستعدون وجاهزون للمحاولة والحفاظ على حكومة عراقية موحدة ترتكز على التسوية، وأنهم مستعدون لمواصلة العمل على بناء قوة أمنية غير مذهبية تعمل كما يجب وتخضع للمساءلة أمام حكومة مدنية. ما يؤرق أوباما ليلا وهو في مكتب الخرائط بالبيت الأبيض المسألة المذهبية التي تعد النقطة الأوسع التي ينبغي التركيز عليها بنظره في مشهد يتميز بأقلية سنية ناقمة في العراق، وأغلبية سنية ناقمة في سوريا، في مساحة تمتد في شكل أساسي من بغداد إلى دمشق؛ و إذا لم يقدم إليهم صيغة تلبي تطلعاتهم سوف يواجه حتماً مشكلات ، وهو ما لم تدركه في مرحلة زمنية معينة الأكثرية الشيعية في العراق لكن حينما بدأت تتفهمه وجدت نفسها أمام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والمشرق الذي لا يلقى، باعتقاده، ترحيباً في أوساط السنة العاديين لكنهم يملأون فراغاً . السؤال بالنسبة إليه ليس فقط في كيفية التصدى لهم عسكرياً إنما في كيفية مخاطبة الأكثرية السنية في تلك المنطقة وهي الآن منفصلة عن الاقتصاد العالمي عكس الأكراد الذين أحسنوا الإفادة من التضحيات التي قدمها الجنود الامريكان في العراق حيث يسير الإقليم الكردي شؤونه بالطريقة التي تتمناها أمريكا متحليا بالتسامح حيال المذاهب والأديان الأخرى ، وهذا ما ترغب في رؤيته في الأماكن الأخرى معتبرة أنه من المهم الحرص على حماية تلك المساحة. أوباما الذي تعهد بتدمير »تنظيم الدولة الاسلامية« من خلال الدورة ال69 بالجمعية العامة للأمم المتحدة ، مطالبا كافة دول العالم الانضمام لأمريكا لمحاربته وتعزيز القوات الأرضية التي ستحارب ''داعش '' إلى جانب قطع كافة مصادر تمويلها و لافتا إلى أن عدد الدول التي انضمت لأمريكا لمحاربتها وصلت إلى 40 دولة ، كان قد أعلن من قبل وعبر نيويورك تايمز أن ذلك يدخل ضمن مصلحة أمريكا الاستراتيجية في التصدي لتنظيم ''داعش''وعدم السماح لهم بإنشاء خلافة في سورياوالعراق، لكن لا يمكن القيام بذلك إلا إذا علمت أمريكا أن لديها شركاء على الأرض قادرون على ملء الفراغ كي تتمكن من التواصل مع القبائل السنية و الحكام والقادة المحليين الذين يجب أن يشعروا بأنهم يناضلون من أجل قضية معينة، وإلا قد يمكّن من إبعاد ''داعش'' لبعض الوقت، لكن ما إن ترحل طائرات أمريكا حتى يعودوا من جديد . في إشارة تحمل الكثير من الدلالات السياسية في الراهن المحلي الأمريكي يقول أوباما أنه لا يريد أن تصبح أمريكا بمثابة قوة جوية موضوعة في تصرف العراق ولا قوة جوية للأكراد في غياب التزام من الشعب على الأرض برص صفوفه والقيام بما يلزم سياسياً للشروع في حماية نفسه والتصدي لتنظيم داعش. برصد المعطيات المتلاحقة فإن دعوة أمريكا لإعلان الحرب على تنظيم ''داعش'' راجع لتخوفها من خوض حرب حقيقية ، وأنها تبحث عن وكلاء لها في الحرب وهو مايؤكد عدم إصرارها على عدم التدخل البري والاكتفاء بتوجيه الضربات الجوية . أمريكا تبحث عن محاربين بالوكالة في هذه الحرب، تقدم لهم الدعم المالي وتزودهم بالأسلحة ليحاربوا بالنيابة عنها لان الشعب والناخب الأمريكي سئم من ذلك خاصة بعد الحرب في أفغانستان التي كلفت الاقتصاد الامريكي تكلفة باهظة . ما يثير الانتباه في حديث أوباماوهو يتحدث من قاعة الخرائط تمرير جملة مفادها أن ما يشهده الشرق الأوسط وأجزاء من شمال أفريقيا هو بداية انهيار منظومة تعود إلى الحرب العالمية الأولى بمعنى هناك تفكك قد سيحصل من دون تقديم توضيحات أو شروحات عدا الاشارة الى الوضع الليبي ودفاعه عن عين الصواب في التدخل مع التحالف الذي أطاح بالقذافي لمنع وقوع مجزرة ونشوء وضع مشابها لما يجري اليوم في سوريا عبر المزيد من القتل والخراب والتدمير، لكنه يسجل أيضا الندم الكبير من دون متابعته الكافية على الأرض لإدارة الانتقال الليبي نحو سياسة أكثر ديمقراطية ومساعدة الليبيين على بناء مؤسساتهم .. والحقيقة أنه مابين الصواب والندم، فقد تحولت ليبيا إلى مأساة ومؤشرات تفكك وحدتها تلوح في الأفق إذا لم يستعيد اللبيبين وعيهم الوحدوي في الحوار والإجماع الوطني.