يطرح خطاب المعارضة هذه الأيام تساؤلات جدية حول خلفيات وأهداف تشكيلات سياسية فضلت الخوض في جدل محموم حول ما تسميه بشغور منصب الرئاسة، وبشكل مخالف للحقيقة والواقع، فهل هذه المعارضة التي تزايد بالديمقراطية والتغيير، مدركة لطبيعة التحديات التي تواجهها الجزائر، فمن غير المنطقي أن يتم جر البلد إلى مستنقع عدم الاستقرار المؤسساتي في وقت هو في حاجة إلى تجنيد كل القوى من أجل مواجهة التحديات الكثيرة التي تتهدده وعلى رأسها التحدي الأمني بفعل الأوضاع الخطيرة المستشرية في بعض دول الجوار. تواجه الجزائر تهديدات كثيرة ومختلفة، ويشكل التهديد الإرهابي سواء الداخلي أو الخارجي تحدي حقيقي بدأت معالمه تتضح مع مرور الوقت، ومع التغيرات التي طرأت على الجبهة الأمنية سواء بسبب التغيير في الإستراتجية والعناوين، وما يصاحبه بطبيعة الحال من تغيير يمس أيضا أجندات بعض القوى الدولية التي تصنع هذا الواقع أو تسيره في اتجاه خدمة مصالحها وأهدافها، والذي قرأ بتمعن رسالة نائب وزير الدفاع الوطني وقائد أركان الجيش، الفريق قايد صالح التي وجهها إلى ضباط وأفراد المؤسسة العسكرية، يقف حتما على طبيعة المخاطر التي تحيط بالجزائر من كل جانب، فالبلد في حاجة ماسة لكل أبنائه لمواجهة خطر الإرهاب، ولا يمكن أن يحتمل أي محاولة لصرب استقراره الداخلي أو تهديد عمل مؤسساته الدستورية. اللافت وسط هذا الجدل المصاحب لأوضاع غير طبيعية داخلية وخارجية، هو عودة المعارضة الراديكالية ممثلة في تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي إلى خطاب ما قبل الرئاسيات الأخيرة، واستعادة نفس أدوات النقد في إطار حملة مركزة تستهدف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من خلال الحديث عن شغور منصب الرئاسة أو الدعوة ومجددا إلى تفعيل المادة 88 من الدستور التي تتحدث عن حالة العجز، فهذا الخطاب أصبح يتجه أكثر فأكثر نحو تسويد الوضع وبناء صور غير حقيقية عن حالة البلد وعن الوضعية التي توجد عليها مؤسسات الجمهورية، بالحديث عن الانسداد تارة وعن مستقبل »جهنمي« تارة أخرى، وبشكل يوحي وكأن البلد مقبل على »ثورة« عارمة أو انفجار اجتماعي جارف، أو هو قاب قوسين أو أدنى من »تسونامي« يأتي على الأخضر واليابس، مع أنه لا شيء ينبئ بهذه الصورة القاتمة التي ولت إلى غير رجعة ولم يعد يحس بها حتى المواطن البسيط، رغم مشاكله اليومية الكثيرة. المعارضة في الجزائر، أو بعضها على الأقل، لم تتعلم الدرس من أخطاء الطبقة السياسية في العقود الماضية، فرغم المآسي الكثيرة التي مرت بها الجزائر، ورغم محنة المأساة الوطنية التي لا تزال البلاد تدفع فاتورتها إلى غاية اللحظة، تواصل بعض التشكيلات السياسية سياسة التأزيم من خلال مساعي غير منطقية وغير محسوبة العواقب لإعادة البلد إلى مربع البداية، وإغراقه في مستنقع غياب أو انعدام الاستقرار المؤسساتي الذي يعني في قاموس السياسة والممارسة الديمقراطية، الرجوع إلى الخلف والتخلي عن مكتسبات الاستقرار، تحت عناوين زائفة، كتلك التي يتبناها البعض بحديثه عن تغيير على طريقة الانقلابات التي عفا عنها الزمان ولم تعد مستساغة حتى في الدول التي تصنف في خانة التخلف والاستبداد، فمن غير المنطقي أو المعقول أن تستعمل قيم الديمقراطية ومفاهيمها لدفع العسكر مجددا إلى واجهة الحكم، وتكرار دعوة الجيش إلى التدخل وإزاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من كرسي المرادية، بدعوى أن الرئيس عاجز عن ممارسة مهامه الدستورية، مع أن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد العكس، وتثبت بالحجة الدامغة بأن الجزائر تسير بحكمة وتواجه التحديات التي تحيط بها من كل جانب بالكثير من الذكاء، ومؤخرا فقط أجرى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حركة واسعة على مستوى مسؤولي الجهات القضائية، وقبلها ترأس اجتماعا موسعا للمجلس الأعلى للأمن خصص لدراسة التحديات التي يفرضها الوضع الأمني المتدهور في كل من ليبيا ومالي، وقبل أيام أيضا تحدثت منابر تعتمدها المعارضة لتمرير خطابها، عن تغييرات أجراها الرئيس على المؤسسة العسكرية، زعموا بأنها تندرج ضمنت مساعي الرئيس لتثبيت حكمه، مع أن قرارات من هذا النوع وبهذه القيمة والأهمية تتخذ بشكل عادي في كل بلدان العالم، وتندرج ضمن مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهي طبيعية ولا تحتمل قراءات تحاول أن تثبت تهمة قديمة تلاحق السلطة في الجزائر تتحدث عن صراع العصب. يحق لكل متتبع لهذا الجدل، بل يحق لكل مواطن جزائري غيور على وطنه أن يتساءل بمنتهى البراءة، ألا يشكل هذا الجدل المحموم أداة من أدوات التي تساهم في إضعاف الجبهة الداخلية وجعلها هشة غير قادرة على مواجهة مختلف التحديات التي تواجهها البلاد، وعلى رأسها التحديات الأمنية سواء كانت داخلية، أو ارتبطت بما يجري في محيط الجزائر المباشر، خاصة ليبيا وتونس ومالي، فالمطلوب في ظل هذه الظروف وفي ظل أوضاع مماثلة أن يتوحد الجميع للتصدي للأخطار التي قد تصيب البلد بأي شكل من الأشكال، وهو ما يحدث عادة في الدول الراسخة في الديمقراطية، ولا يشكل ذلك عيبا وإنما نقطة قوة تسمح بحماية الاستقلال الوطني، فما الذي ستفعله المعارضة الراديكالية ببلد ممزق غارق في الفتن والدماء، هل تتحقق الديمقراطية وتتوسع الحريات في ظل الفوضى، ومن كانت تساوره أي شكوك ما عليه إلا أن يسأل الليبيين ويسأل السوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم عن قيمة الأمن والاستقرار ووحدة البلد، ويسألهم أيضا عن الديمقراطية التي جلبتها معارضة تتقوى بالخارج وتتحين الفرص لتنقض على الحكم رغم انف الشعب وعلى حساب إرادته.