عاد قدور من زيارة وحيدة قام بها إلى باريس، وكان مبهورا بالزيارة، يحدث كل من يلقاه عن جمال باريس وروعة باريس، ويردد: »آه، لو كنت ذهبت إلى باريس من أربعين سنة«، ويقاطعه مستمع قائلا: »إيه، عندما كانت باريس...باريس«، ويرد قدور بحسرة لا يستطيع إخفاءها: »لا....عندما كان قدور....قدور«. وفي حديث أوردته »رأي اليوم« الإلكترونية قال الكاتب المصري الأستاذ محمد حسنين هيكل أن »مصر الآن تخوض معركة من أجل مصير الأمة كلها، مشيرا إلى أن السيسي يخوض هذه المعركة، وهي معركة لا تحتمل أي فشل«، واعتبر هيكل »الحديث عن تهديد قطري لمصر مهانة يخجل منها«، مشيرا إلى أن »ما يمثل مهابة الدول هو أن تكون قادرة سواء بقوتها الصلبة أو الناعمة«، مشيرا إلى أن »مصر ينبغي أن تستعيد دورها ومهابتها ومكانتها«. ونعى هيكل سقوط القوى الناعمة المصرية الآن، مشيرا إلى مصر كانت بأغنية تستطيع أن تزيل نظما، وأن »الأهرام« كان يوزّع في الدول العربية أكثر ما توزع كل الصحف المحلية مجتمعة. وأنا لا أريد أن أدخل في تفاصيل الشأن المصري الداخلي فهذا أمر يهم الأشقاء هناك، وأنا أعرف حساسيتهم عند كل نقد مهما حسنت نواياه، لكن كلاما كهذا يُفسر عجز الجامعة العربية عن أداء أي دور خلاق عبر مسيرتها الطويلة. فبغض النظر عن التناقض بين إشارة هيكل الاستعلائية لدولة عربية صغيرة الحجم كبيرة التأثير والاعتراف في الوقت نفسه بأن مصر فقدت مكانتها وعليها أن تستعيدها، نجد أن المنطق الذي سيطر على الجامعة العربية منذ إنشائها كان ما اعترف به هيكل من أن مصر كانت تستطيع أن تزيل أنظمة بأغنية (وهو لم يقل لنا أي أغنية أزالت نظاما) كانت مصر هي القوة الرئيسية المؤثرة على حركة الجامعة منذ عهد الملك فاروق لأنها كانت مصدر الإشعاع العلمي والحضاري في المشرق العربي وأكبر قوة اقتصادية وفكرية عربية في الأربعينيات، وكانت قاطرة الثقافة والتوسع العمراني في المشرق العربي ورائدة دعم كل حركات التحرير في الخمسينيات، وأكبر رواد عدم الانحياز وقيام منظمة الوحدة الإفريقية في الستينيات. وكيفت تلك الوضعية دور الجامعة وأسلوب أدائها آنذاك، لكن الأمر أصبح عبئا ثقيلا على حركة الجامعة منذ أختار الرئيس السادات طريقا غير طريق أسلافه، جمهوريين وملكيين. وأصبح خليفة عبد الناصر، مستفيدا من شرعية حرب أكتوبر المجيدة، يتفلسف أمام مجلس الشعب قائلا في خطاب مباشر بأن: "مصر لا تنتمي للعرب ولكن العرب هم من ينتمون لمصر، لأن العرب هم أبناء هاجر زوج إبراهيم، وهاجر مصرية". وكان هذا تجاهلا مضحكا للحقائق، لأن في العرب يهودا (السابرا) وهؤلاء أبناء سارة، وفي العرب مسيحيون، وهؤلاء، والمسيح على رأسهم، كانوا يهودا، ولأن مسلمي العرب كانوا إما وثنيين أو أتباعا للديانتين السماويتين. ثم إن الحديث عن سارة وهاجر يصب، بكل عباطة، في خانة ادعاءات اليهود، التي تحاول الإقلال من شأن شعب عظيم كالشعب المصري، ربما للانتقام من مرحلة الفراعنة التي فروا فيها من مصر، ثم راحوا يدعون بأنهم هم بناة الأهرام، وذلك بالتركيز على أن المصريين هم أبناء هاجر وبقية العرب هم أبناء سارة، وسارة كانت السيدة في حين أن هاجر كانت جارية. وهكذا كانت الجامعة العربية ومسيرتها ضحية للوزن المصري الكبير وتحالفاته من الأربعينيات وإلى السبعينيات، وتميزت المواقف بانعدام المقاييس السياسية المنطقية، الخاضعة لضغوط بعض الأعضاء وتواطؤ البعض الآخر وصمت الكثيرين (وأعتذر، قبل مواصلة الحديث، عن بعض التكرار لأفكار جاءت في مقالات سابقة لي). فالنظرة الأولى لقائمة الأعضاء في الجامعة تعطي صورة واضحة لأهم أسباب فشل الجامعة العربية، وهو. وعلى وجه المثال نجد أن بلدا مثل إيرتريا، ذي الأغلبية الناطقة بالعربية، اعتبرت مجرد عضو مراقب، في حين أن الصومال هي عضو كامل العضوية، رغم أنه بلد لا يعتبر العربية لغته الرسمية، وأغلبية سكانه لا تستعملها، وهو ما يؤكد أن العقيد القذافي كان على حق وهو يطالب بأن يكون مقياس الانضمام للجامعة العربية أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية واللغة الوطنية الأولى للبلد المنضم. وعرفت الجامعة فضيحة تجاهل جمهورية موريطانيا الإسلامية، التي استقلت في عام 1961، لكن الدول العربية، باستثناء تونس والجزائر، رفضت الاعتراف بها تضامنا مع المملكة المغربية، التي كانت تدعي آنذاك أن موريطانيا جزء من ترابها التاريخي، وهي لا تعترف بالتالي باستقلالها رغم اعتراف الأممالمتحدة به. وعرفت الجامعة فضيحة كبرى إثر اتفاقية كامب دافيد بين مصر والكيان الصهيوني، وهي اتفاقية ربما كانت لها مبرراتها على مستوى القيادة المصرية، لكنها كانت كارثة على الوطن العربي، غير أن الجامعة العربية وأمينها العام آنذاك السيد محمود رياض، الذي كان عضوا في مباحثات اتفاقيات الهدنة بين مصر وإسرائيل في رودس عام 1949، منحتها البركة، تاما مثل الأزهر، الذي استدل علماؤه، كالعادة، بالآية القرآنية: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها. وجاءت الفضيحة الأكبر، والتي يستعرض الأستاذ هيكل بعض جوانبها في كتابه "أوهام النصر"، مع الغزو الغبي الذي قام به الرئيس العراقي صدام حسين لدولة الكويت في أغسطس 1990، والذي يحمل الرئيس المصري حسني مبارك بعض مسؤولياته، إن لم يكن أهمها. وتدل دراسات كثيرة على أن صدام كان قد وعد بسحب قواته في نفس الأسبوع، لكنه اشترط أن يُعطي له اجتماع وزراء الجامعة العربية المجتمعين في القاهرة الفرصة لإنقاذ ماء وجهه بانسحاب مٌشرّف، لكن الجامعة، وبضغوط متعددة أهمها ضغوط دولة المقر، اتخذت موقفا منددا دفع صدام إلى العناد والتشدد، وكان النتيجة المعروفة. وانتقلت الجامعة العربية إلى تونس إثر التناقض المصري العربي، واستقال محمود رياض ليخلفه التونسي الشاذلي القليبي، وكان مؤتمر العاشر من أغسطس 1990 مهزلة كبيرة أشرف على حياكتها الرئيس مبارك، وقيل من مصدر أردني أن النص الرئيسي لبيان القمة كان مترجما عن نص كتب بالإنغليزية (وكان يشير إلى حدوث الغزو العراقي يوم 1 أغسطس، وليس 2 أغسطس، مما كان يعني أن النص الأصلي كتب في واشنطون، نظرا للفارق الزمني بين المنطقتين). وانتهت القمة باستقالة الشاذلي القليبي، ودخول القوات الأمريكية إلى المنطقة للمساهمة في تحرير الكويت، والذي كان هدفه الرئيسي، كما تأكد فيما بعد، تدمير القوة العراقية، التي كانت القوة الوحيدة القادرة على أن تكون عمودا فقريا للمنازلة المحتملة مع إسرائيل، وكانت المحصلة النهائية شرخا عربيا زاد من خطورة الشرخ الذي أحدثه اتفاق كامب دافيد. ولن أدخل في كل التفاصيل التي حدثت بعد ذلك لأنها ما زالت حية في الأذهان، ويكفي أن أقول أن تلك التطورات دفعت كثيرين إلى التفكير في محاولة لإنقاذ الجامعة العربية، التي أصبحت في عهد الرئيس مبارك مجرد زائدة دودية تابعة لمؤسسة الخارجية المصرية، التي كانت هي نفسها زائدة دودية تابعة للسيد عمر سليمان، رجل المخابرات المصرية الأسطوري. وتعالت فكرة رفض المنطق الذي يفرض اختيار الأمين العام للجامعة من دولة المقر، وهو ما يتناقض مع التقاليد الدولية والجهوية، لكن طرح القضية، وخصوصا من الجانب الجزائري، كان طرحا جمع بين الغموض والميوعة، مما أثار عند الأشقاء في مصر، وكالعادة، حجما كبيرا من ردود الفعل العاطفية التي تقترب من الشوفينية. وراح البعض يزايد رافضا ما رأوه اتجاها نحو تدوير المنصب، وهو، للأمانة، ما لم يُطالب به وزير الخارجية الجزائري آنذاك، حيث أن المطالبة انصبت أساسا على ضرورة أن يكون ترشيح الأمين العام ترشيحا عربيا وليس ترشيحا محليا. وتبدو عمليات إصلاح الجامعة كنوع من الترقيع، هدفها الرئيسي انتزاع مناصب عمل لمن أرادت بعض الدول تكريمهم أو التخلص منهم لسبب أو لآخر، ويتأكد لي هنا أن ما يجب أن نعمل له هو تكريم الجامعة العربية بالأسلوب الذي كنت طالبت به لتكريم اتحاد المغرب العربي، على أساس أن تكريم الميت الإسراع بدفنه. ولعلي أرى أن المطلوب اليوم، لإنقاذ السفينة من غرق مؤكد، قرار بابتعاد الجامعة العربية عن السياسة، التي لن نحقق فيها شيئا على المدى القريب، لأن الشوفينية تأصلت في النفوس، وبابتعادها عن أفكار التكامل الاقتصادي العربي، لأن اقتصادنا يسيطر عليه غالبا منطق الترابندو (تجار الشنطة) والنظرة الإقليمية الضيقة. وهذا يعني أن نركز على الجانب الثقافي الذي يجعل من الوحدة اللغوية العربية أساس تحركه، بدءا بالعمل على صياغة منهج تعليمي عربي موحد، ووصولا إلى توحيد مناهج التعليم في الوطن العربي، وتوحيد ترقيم لوحات السيارات بنفس الطريقة الجزائرية التي تستعمل الأرقام العربية مكتفية بها عن أي كتابة، واستعمال نفس الأرقام العربية في الحياة العامة، كما هو الشأن في المغرب العربي الخ. وقد نصل، إذا وُجدت الإرادة، إلى توحيد اسم العملة، ولا أقول توحيد العملة، بحيث نستلهم فكرة تسمية الجنيه الإسترليني والدولار، وأذكر أن الدولار الأمريكي ليست له نفس قيمة الدولار المكسيكي أو الكندي، وهكذا نستعمل كلمات الدينار والدرهم، وهي كلمات موجودة في تراثنا الإسلامي ومستعملة في المغرب العربي المتوسطي، بدلا من الجنيه (البريطاني الأصل) والليرة (إيطالية الأصل). وأعترف بأن تلك خطوات هزيلة إذا قورنت بإنجاز الاتحاد الأوربي، لكنها تستلهم المثال الصيني القائل بأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فما بالكم برحلة الوحدة العربية ؟. وهذا مجرد رأي لمواطن يعيش مرحلة نقاهة.