غضب في فرنسا بعد المجرزة التي استهدفت جريدة شارلي إيبدو الساخرة، عشرات المسيرات والتجمعات تضامنا مع الضحايا، وتنديدا بالعنف والإرهاب، ومسلمو فرنسا، مواطنين ومقيمين، يسارعون إلى التبرؤ من هذه الفعلة وهم موقنون أنهم سيحملون أوزارها في كل الأحوال. ليس هناك ما هو أسهل من التنديد بالقتلة والتضامن مع عائلات الضحايا، جملة من هنا، وفقرة من هناك، ويكتمل نص بديع يحمل أرقى المشاعر الإنسانية التي ترفض العنف والإرهاب، وتجدد الولاء لقيم الجمهورية والحرية والتسامح، ورد الفعل هذا يصدر بعد كل عملية دون أن يمنع تكرارها بطريقة أبشع في مرة قادمة. حرية التعبير التي مارستها شارلي إيبدو كانت موجهة ومنتقاة، كان العداء للإسلام والسخرية من أتباعه هو خطها الافتتاحي، وجعلت من الكراهية سلعتها التي تعرضها على المهووسين بنقاء الهوية والثقافة الفرنسيتين، حتى الفرنسيون من غير المسلمين امتعضوا من مبالغة الصحيفة في إلحاق الأذى بمشاعر الملايين من الفرنسيين من أتباع المسلمين، فضلا عن المسلمين في كل أنحاء العالم، ومع ذلك سيتعين على كل من يتناول مجزرة أمس أن يبدأ كلامه بالتبرؤ من الجريمة ومن اقترفوها. تقتضي الديمقراطية وحرية التعبير أن يكون القلم في مقابل القلم، وأن لا مكان للغة القتل والعنف في هذه المبارزة الفكرية، لكن الديمقراطية الفرنسية لم تتسع للملايين الذين يعيشون على هامش الجمهورية، يتابعون يوميا حملات التحقير التي تلاحقهم عبر وسائل الإعلام، تضعهم خلف الصفوف كمواطنين من الدرجة الثانية، وتجعل من قيمهم وعقائدهم عرضة للسخرية والازدراء. لا يمكن لفرنسا التي عزلت الملايين في غيتوهات أقيمت في ضواحي المدن الكبرى، أن تتوقع جدالا فكريا من أولئك الذين لم ينلهم فضل الحضارة، ومنافع التعليم، ولم يستفيدوا من مزايا الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية، ولم تفتح لهم أبواب الحياة الاقتصادية والاندماج الاجتماعي. هؤلاء لا يملكون رجاحة العقل التي تجعلهم يصبرون على حماقات اليمين الفرنسي وهو يحولهم إلى فزاعة لتجنيد المتطرفين في الحملات الانتخابية، وهم لا يملكون الثقافة التي تجعلهم يتقبلون السخرية والاحتقار كجزء من قيم الجمهورية الفرنسية، إنهم بكل بساطة لا يعرفون تلك القيم ولم يستوعبوها، لأنهم غادروا المدرسة مبكرا ولما احتضنهم الشارع لم يجدوا أثرا لقيم الحرية والمساواة والأخوة أثرا في ممارسات الجمهورية وسلوك دعاتها. لا أبرر فعل القتل بتلك الطريقة، لكن تنديدي بالمجزرة لن يغير في الوضع شيئا ، ستستمر حملات الكراهية، وستغذي مزيدا من التطرف في دورة عنف جنونية وقاتلة لا يمكن إيقافها إلا بالاجتهاد في فهم الآخر وتقبله واحترامه تمهيدا للاعتراف به كمكون لهذه الحضارة التي تفاخر العالم بأنها منحت الإنسانية أنبل القيم.