عندما تلقيت دعوة من رئيس جمعية الوئام ببلدية حساينية ولاية قالمة الاستاذ مختار برشاوي لالقاء محاضرة في الملتقى الوطني هواري بومدين في طبعته السادسة الجزائر وحركات التحرر العالمية، يومي 27 و 28 ديسمبر 2014 ونظرا لأن الجزائر قد أعطت طابعا خاصا للتضامن مع الشعب الفلسطيني خلال عام 2014 الذي قررته الأممالمتحدة، رأيت أنه من المناسب أن تكون محاضرتي بعنوان "موقف الجزائر من قضية فلسطين منذ استعادة الاستقلال عام 1962 إلى العام الجاري 2014". الخلفية التاريخية للعلاقات الجزائرية–الفلسطينية إن عملية مسح لأدبيات الحركة الوطنية الجزائرية منذ بداية العشريينات من القرن الماضي التي تم القيام بها أثناء إعداد رسالة الدكتوراه بعنوان: البعد الفلسطيني في سياسة الجزائر الخارجية تفيد وتؤكد في خلاصتها ان قضية فلسطين ودعمها -- رغم معاناة الجزائر تحت طغيان الاستدمار الفرنسي-- قد شكلت محورا أساسيا في وجدان الشعب الجزائري وجامعا مشتركا في مواقف كل تيارات الحركة الوطنية من نجم شمال إفريقيا حتى جبهة التحرير الوطني مرورا بحزب الشعب وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية وكذلك لدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحتى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. وعلى سبيل المثال فان صحيفة الأمة لسان حال نجم شمال إفريقيا ثم حزب الشعب قد خصصت ركنا بعنوان : عبر المشرق الإسلامي يعنى بفلسطين والقدس تحديدا، يستخلص منه أن حزب الشعب يعتبر أن نضال وكفاح الأمة العربية واحد، والقتال في فلسطين هو جزء من القتال الشامل لهذه الأمة، بما فيها كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار، كما أن مساندة القضية الفلسطينية ودعمها قد احتلت مكانة كبيرة لدى جمعية العلماء المسلمين وهذا ما عكسته صحفها مثل الشهاب والبصائر وغيرها، إضافة إلى أن تقمص قضية فلسطين واعتبار دعمها ومساندتها فرض عين قد ترجمته العديد من مقالات وتعليقات الكتاب والأدباء وقصائد الشعراء وخلاصتها إدراكهم المبكر لما كان يخطط لفلسطين من مؤامرات نبهوا إليها في حينه، وعلى سبيل المثال فقد نبه محمد راسم في صحيفة ذو الفقار في عددها الصادر يوم 28 جويلية 1914 أي قبل وعد بلفور بثلاث سنوات لما قد تتعرض له فلسطين من مخاطر والاتجاه أكده محمد سعيد الزاهري عام 1929 ، وعلى إثر نكبة عام 1948 ولترجمة دعم فلسطين تم تشكيل لجنة نصرة الجزائر من أهم التنظيمات المعبرة عن المجتمع الجزائري وهي حركة الانتصار للحريات والديمقراطية وجمعية العلماء الجزائريين والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ، وعكس الكتاب والشعراء الجزائريين المكانة العظيمة والكبيرة التي تحتلها قضية فلسطين في الضمير الجزائري مؤكدين على أن الشعب الجزائري ينظر إلى فلسطين باعتبارها قضيته لعوامل قومية ودينية وإنسانية وتحررية ويرفض مطلقا الوصاية على الشعب الفلسطيني لأنه رفض الوصاية على الثورة الجزائرية، التي ترجمت صحفها وصحيفة المجاهد بالتحديد موقف جبهة التحرير والثورة الداعم لقضية فلسطين بما في دلك مواقف المنظمات والاتحادات الوطنية مثل الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين ، أما بالنسبة للجانب الفلسطيني فقد مثلت ثورة أول نوفمبر المجيدة نموذجا عظيما ورائدا لدى الشعب الفلسطيني و العديد من شبابه الثائر يستحق الاقتداء به والاستلهام منه، وبهذا الخصوص يقول أبو جهاد، أحد أبرز القيادات الفلسطينية " لقد كانت أمام أعيننا تجربة الثورة الجزائرية التي كانت المثل المحتذى من قبل شعبنا الفلسطيني وامتنا من حيث الإرادة والتصميم، وتحقيق الانتصار ومواجهة واحدة من أعتى القوى في العالم بإمكانات وقدرات قليلة ولكنها قدرات وإمكانات شعب صمم على العطاء وبذل التضحيات ولهذا فان حالة من المخاض أخذت تتبلور في صفوف الشعب الفلسطيني وكلما اجتمع عدد من الفلسطينيين كبر العدد أم صغر يطرح سؤال يقول: من هم الخمسة الأوائل الذين يمكن أن يكونوا بداية الثورة؟ ويبرزون كما برز الخمسة الأوائل في صفوف الشعب الجزائري وأطلقوا الثورة الجزائرية الرائدة؟". وفي الاتجاه ذاته تؤكد الموسوعة الفلسطينية على أهمية المثال الناجح والنموذج الرائد الذي مثلته الثورة الجزائرية في النضال ضد الاستعمار الاستيطاني بقولها: (كانت الجزائر مثالا مجسدا للنجاح في النضال ضد الاستعمار الاستيطاني، ولا شك أن تلك التجربة النضالية الجزائرية الرائدة فعلت فعلها في شحذ همة المناضلين الفلسطينيين رغم بعد المسافة واختلاف الظروف، وكان للتجربة الجزائرية إيحاؤها فيما يختص بضرورة الاعتماد على الذات أولا وقبل كل شيء، وهكذا شجعت الجزائر أولئك الذين يرون أنهم أصحاب القضية الذين يجدر بهم أن يبعدوها عن الخلاقات العربية، وما تجربة الجزائر إلا مناشدة كبرى لأنصار الكفاح من الفلسطينيين). فاذا كانت فلسطين تحتل هذه المكانة الكبيرة في الضمير الجمعي الجزائري، والجزائر ونضالها قد مثلا قدوة ونموذجا رائدين للفلسطينيين، فكيف كان موقع فلسطين والموقف منها من قبل الجزائر الدولة المستقلة؟ الجزائر المستقلة وقضية فلسطين إن قضية التحرر وحق الشعوب في تقرير المصير هي جزء أساسي من ذاتية الجزائر نفسها والتي استندت ديبلوماسية ثورتها ( 1954 – 1962 ) إلى هذا المبدأ ورافعت من أجل استرجاع السيادة والاستقلال الوطني اللذين غيبهما الاستدمار الفرنسي الغاشم بصورة قسرية لمدة 132 عاما، وفي هذا السياق فإن الجزائر الثورة قد لعبت دورا مهما دفع باتجاه إصدار القرار الأممي 1514 المتصل بحق الشعوب في تقرير المصير، حيث أنه في الوقت الذي كان مناضلو جبهة التحرير يقومون بجهود دبلوماسية كبيرة لإقناع دول العالم على مستوى اللجنة السياسية بالأممالمتحدة بحق الجزائر وكل الشعوب المستعمرة في الحرية والاستقلال، جاءت مظاهرات 11 ديسمبر 1960التي أثبتت للعالم أجمع إصرار الشعب الجزائري على نيل الحرية واسترجاع سيادته وبالتالي طمس وبشكل نهائي مقولة أن الجزائر فرنسية، وقد بلغ صدى هذه المظاهرات أروقة الأممالمتحدة وكان له أثره الواضح على مجريات اجتماعات اللجنة السياسية التي كانت أشغالها متواصلة باعتماد القرار 1514 يوم 14 ديسمبر 1960 تحت عنوان: منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي شكل محورا أساسيا استندت اليه جميع القرارات الأممية اللاحقة وأصبح سندا لكل حركات التحرر في العالم بما فيها الجزائر التي استرجعت استقلالها وسيادتها يوم 5 جويلية 1962. ومما سبق يمكن طرح السؤال التالي: ما هي مكانة مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال في السياسة الخارجية للجزائر المستقلة؟ والى أي مدى انسجم أداء الدبلوماسية مع مبادئ السياسة الخارجية منذ استعادة الجزائر استقلالها عام 1962 إلى غاية يوم الناس هذا بخصوص العلاقة مع قضية فلسطين؟ إن أي باحث أو مهتم يجد بدون كبير عناء أن مسألة حق الشعوب في تقرير المصير مثله مثل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحق الشعوب والأمم في السيطرة على ثرواتها الوطنية مكرسة بوضوح وجلاء تام في كل مرجعيات سياسة الجزائر الخارجية من بيانات ومواثيق ودساتير سواء بالنسبة للجزائر الثورة أو الجزائر الدولة. وتجسيدا لما سبق الاشارة اليه فقد انخرطت الجزائر فور استعادة السيادة والاستقلال 1962في العمل على المستوى الدولي وفي المقدمة منه الساحة العربية بمواقف تعكس وهج الثورة المنتصرة ورفعت لواء مساندة قضايا التحرر في العالم وفي المقدمة قضية فلسطين وتم التعبير عن ذلك بشكل معلن ورسمي وهذا ما نشير الى بعض محطاته ذات الدلالة على سبيل المثال فقط لا الحصر لان تفاصيل كل جزئية تحتاج وحدها الى محاضرات خاصة وهذه بعض المحطات. 1- احتضان الجزائر بعيد الاستقلال مباشرة مكتب لحركة فتح 1963 وقد كان هذا المكتب منطلقا أساسيا للفلسطينيين نحو العالم للتعريف بقضيتهم بدعم تام ومعلن من الجزائر، وهذا ما يؤكده أبو جهاد خليل الوزير أحد أبرز القيادات الفلسطينية الذي تولى رئاسة هذا المكتب مدة من الزمن( كان مكتب الجزائر نافذتنا السياسية العلنية الوحيدة، وقد استطعنا من خلاله إقامة علاقات متينة وواسعة مع الكثير من حركات التحرير العالمية التي تتمركز في الجزائر، ومن بينها جبهة تحرير فيتنام الجنوبية وفي ذلك الوقت والتي مكنتنا من إقامة علاقات للمرة الأولى مع عدد من الدول الهامة من بينها الصين الشعبية وفيتنام الشمالية وكوريا واليابان ويوغوسلافيا وألمانيا.) 2- استقبال العديد من الشباب الفلسطيني للتدريب عسكريا، و آلاف الطلبة في الجامعات والمعاهد اضافة الى العديد من الاساتذة الفلسطينيين. 3- حرص الجزائر على تمكين القيادات الفلسطينية من الالتقاء بالوفود الأجنبية التي تزور الجزائر سواء على المستوى الثنائي أو المتعدد الأطراف للتعريف بالقضية و إقامة علاقات مع مختلف بلدان العالم. 4- مرافعة الجزائر المستقلة ممثلة برئيسها أحمد بن بلة، في القمة العربية الأولى التي حضرتها الجزائر (جانفي 1964) من أجل ضرورة قيام كيان فلسطيني مستقل لتصدر طليعة النضال لتحرير فلسطين و اقتراح إنشاء جبهة "تحرير فلسطينية، و واضح أن هذا الموقف لم يأت من فراغ بل أنه يستند إلى تجربة ثورية رائدة و قد كان لدور الجزائر أثره الكبير في موافقة القمة العربية الثابتة (ديسمبر 1964) على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري الذي رافع لصالح الثورة الجزائرية باستماتة في الخميسينات من القرن الماضي من على منبر الأممالمتحدة بصفته ممثلا للملكة العربية السعودية. 5- اعتماد قضية فلسطين بندا ثابتا في أجندة الدبلوماسية الجزائرية والعمل لصالحها على كل المستويات الدولية الثنائية أو المتعددة الأطراف وغيرها وتقديم كل أشكال الدعم المباشر بدون أي تردد، و على سبيل المثال فإن بداية الكفاح المسلح في الفاتح من جانفي 1965 كانت بأسلحة جزائرية. 6- دور الجزائر الحاسم في القمة العربية السادسة التي استضافتها و ترأس أشغالها الرئيس الراحل هواري بومدين في شهر سبتمبر 1973 في إصدار القرار الذي يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني و هذا ما أكده الرئيس بومدين في كلمته في اختتام المؤتمر السابع للإتحاد العام للطلبة الفلسطينيين المنعقد بقصر الأمم 16-22 أوت 1974 بقوله: ( ... عندما انعقد مؤتمر القمة العربية الأخير بالجزائر (يقصد المؤتمر السادس) وضعنا كشرط أساسي لأي عمل عربي موحد في المستقبل هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، لأن الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو القضية ككل و القضية الأم، ونحن ما نزال متشبثين بموقفنا بقرارات مؤتمر الجزائر التي تنص على أن الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين هو منظمة التحرير). وفي الاتجاه ذاته يقول عبد الله حوراني رئيس الدائرة الثقافية في منظمة التحرير الفلسطينية خلال مقابلة شخصية معه أواخر شهر أوت 1991 في تونس (إن الجزائر كانت أقوى الأصوات في قمة الجزائر السادسة لصالح منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني). 7- دور الجزائر الكبير لإيصال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات إلى منبر الأممالمتحدة و ليس صدفة أن يكون هذا خلال الدورة ال 29 للجمعية العامة عام 1974 التي ترأسها و قاد مجريات أشغالها بحكمة واقتدار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وقتها وزيرا للشؤون الخارجية في حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين، و قد قال عرفات لولا الجزائر ما كنت قد تمكنت من إلقاء خطابي في الأممالمتحدة، هذا الخطاب الذي جاء فيه عبارته المشهورة "لقد جئت حاملا غصن زيتون وبندقية الثائر فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". يتبع