د/ محمد العربي الزبيري في البداية كان القادة العرب ، من المحيط إلى الخليج ، يتظاهرون بالحياء من التاريخ والخوف من الله ، فلا يجهرون بمواقفهم المتخاذلة إزاء القضية الفلسطينية التي لم يعد الناس يذكرون كيفية ضياعها ، ولا يعلمون إلا النزر القليل عن المؤامرة الغربية التي قادت ، بالتدريج ، إلى تجريد الأمة الإسلامية من حقها الطبيعي في زيارة الأماكن المقدسة ، ولا يدركون الشيء الكثير عن الأحداث التي تخللت جميع المراحل التالية لعهد السلطان عبد الحميد الذي رفض كل العروض الصهيونية المغرية ولم يتنازل عن شبر واحد من أرض هي " ملك لسائر المسلمين " . غير أن التظاهر بالحياء لم يعمر طويلا ، خاصة عندما أقدم واحد من كبارهم على اجتياز جميع الخطوط الحمراء دون استشارة شعبه ودون الرجوع إلى مؤسساته المختلفة ودون أدنى اعتبار لنظرائه ، وقرر ، من أعلى منابر " الكنيست " ، الاعتراف بشرعية الجسم الغريب المغروس بقوة الحديد والنار في قلب الأمة العربية الإسلامية ، ثم أعلن الارتماء في أحضان الولاياتالمتحدةالأمريكية والانضواء تحت لواء الكيان الصهيوني . ولما كان " كامب ديفد " وما ترتب عن ذلك من انبطاح ،علم الشعب في الوطن العربي بأكمله، وفي البلاد الإسلامية عامة، أن ما ينقصه ليكون سعيدا ليست هي الثروة، لأن أراضيه، جوفها وسطحها، تزخر بمصادرها، بل هي القيادات الرشيدة التي تتوفر فيها مقاييس الحاكم الصالح والتي تكون قادرة على التفاعل مع جماهيرها التي هي أصل السلطة الحقيقية ومصدر السيادة الكاملة. وصار أبسط المواطنين يتساءل عن جدوى الحدود القائمة بين أجزاء الوطن الواحد ،إذا لم يكن الهدف منها هو منع التواصل بين الأشقاء وتأبيد حالة التبعية في سائر مجالات الحياة اليومية، ويسأل نفسه من جهة أخرى، عن مدى فائدة تكوين الجيوش التي تستهلك أقساطا كبيرة من الموازين التي كان يفترض تخصيصها لتكوين الإنسان وتوفير أسباب رقيه وتقدمه• صحيح أن التقدم التكنولوجي لا يسمح للجيوش العربية بالوقوف في وجه القوات الامبريالية، فهذه حقيقة لا يحتاج الوصول إليها إلى تفكير طويل، لكن الذي نريد فهمه هو لماذا تستمر الجيوش العربية في تكديس الأسلحة “المتطورة” التي تبقى دائما دون تلك التي يمتلكها صانع الأسلحة وبائعها في آن واحد•ولماذا نخصص أموالا طائلة ، على حساب الفقراء والمساكين ،لتشغيل مصانع أعدائنا الحربية ، وتمكين مخابرهم من التفنن في اكتشاف أسلحة الدمار الشامل التي تسلط علينا كلما حاولنا الخروج من دائرتي التخلف والتبعية. مع العلم أن ما يعطى لنا من أسلحة، مقابل مئات ملايير الدولارات، لا تصلح إلا لقمع الجماهير وإبقائها في حالات التجزئة والجهل والذعر والفقر• قد يتوقف بعضهم معلقا على كل ما تقدم، ويقول مشاكسا :” ما دام هذا هو الوضع ومادام السلاح الذي تتوفر عليه جيوشنا لا يستطيع مقاومة التطور التكنولوجي الذي تتحكم فيه الجيوش المعتدية ، فلماذا تلام الجيوش العربية ويطلب منها أن تهرع لاسترجاع فلسطين أو حتى لحماية أهلها من حرب الإبادة التي يشنها عليهم الكيان الصهيوني بمباركة ما يسمى بالمجتمع الدولي ؟ فالسؤال وجيه على بساطته ، وبقدر ما هو بسيط فإن الجواب عليه في متناول جميع المواطنات والمواطنين الذين يثلج صدورهم أن يروا جيوشهم، مرة واحدة في تاريخ الاستقلالات المزيفة، تتحرك في اتجاه الأنظمة تجبرها على الرحيل لتحل محلها قيادات متنورة تثق في نفسها وفي شعوبها وتعلنها ثورة عارمة وحربا تحريرية لا تتوقف نيرانها إلا بدحر المعتدين واسترجاع السيادة الكاملة على الأراضي المدنسة من المحيط إلى الخليج• إن الذين أضاعوا فلسطين ، هم أنفسهم الذين كانوا سببا في ضياع العراق وسبته ومليليه والجولان وقريبا " الدارفور " ثم حقول الغاز والبترول. ذلك أن الغرب ، بكل طاقاته المادية والبشرية بما في ذلك الكيان الصهيوني ،يبقى عاجزا عن فعل ما فعله لولا عمالة الأنظمة العربية الحاكمة التي لم يعد خافيا أنها تفرض الردة على شعوبها وتوظف قوات القمع لمنع الجماهير من تحمل مسؤولياتها في الجهاد . ومن الجدير بالملاحظة أن بعض أطراف الحركة الإسلامية ، دون غيرها ، هي التي انتبهت إلى خطورة المخطط الامبريالي في المنطقة لكنها، وحدها، ليست قادرة على التصدي له والقضاء عليه، ولم يتفطن المثقفون العرب للمؤامرة التي تستدعي تعبئتهم إلى جانب إخوانهم يستنهضون الجماهير الواسعة ويعدونها للتخلص من حكام لم يعودوا ينظرون سوى إلى بقايا موائد الامبريالية الجديدة التي وجدت في انتهازيتهم وخيانتهم أفضل وسيلة للقضاء على الشرائح الواعية والطلائع المناضلة سواء عن طريق السجن والنفي أو بواسطة الملاحقات المختلفة والمضايقات في سائر قطاعات الحياة• ومن خلال ما يجري ، اليوم ، في فلسطين أصبح واضحا أن الإدارة الأمريكية أدخلت أبرز حكام العرب إلى بيت الطاعة ثم راحت توزع عليهم الأدوار في إطار إستراتيجية إجمالية تهدف إلى إسكات صوت الشعب وإهدار إمكانياته الحقيقية في الثورة والمقاومة وإلى تعميم المخططات الاستسلامية قصد إرساء قواعد التطبيع مع الكيان الصهيوني علما بأن التطبيع يحمل في طياته، كل بذور الإمعية والمعمعية والتبعية، كما أنه يشتمل في عمقه على قابلية الاستعمار• ولأن الحكام المعنيين كانوا يدركون أنهم مغتصبون للسلطة وأن بقاءهم على العروش والكراسي يتطلب حماية أجنبية، فإنهم وجدوا ضالتهم في أدوار العمالة التي حددتها لهم واشنطن مباشرة أو بطريقة غير مباشرة لأن العمالة درجات. ووجدت الامبريالية مصالحها في تقديم تلك الحماية ، بسخاء كبير،لإدراكها بأن الإبقاء على قيادات ممقوتة ومرفوضة يحول دون ترقية الشعوب ويمنعها من تحقيق التغيير الذي هو شرط لا بد منه لترقيتها ولدفع عجلة التقدم إلى الأمام ، كما أنه ضروري لتعبئة سائر القوى الحية في المجتمع من أجل القضاء ، نهائيا ، على كل أنواع الهيمنة الأجنبية . إن "مافيا البترول" تعرف كل ذلك، لكنها، أكثر من ذلك تعرف أن الوطن العربي، يحمل في جوفه أكبر احتياطي بترولي في العالم، كما أنه يشكل موقعا استراتيجيا لا مثيل له وضروريا لإنجاح مخططاتها الكبرى الرامية إلى إخضاع العالم كله خاصة بعد أن حولت مجلس الأمن الدولي إلى مجرد مصلحة إدارية والأمين العام للأمم المتحدة إلى مجرد موظف يطبق الأوامر من دون أدنى نقاش•ولا أدل على ما نقول انتقاداته الأخيرة لتقرير المجلس العالمي لحقوق الإنسان الذي استنكر بشدة سياسة الكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة . إن هذه الحقيقة المرة لا تخفى على أي من حكام العرب، ولا يخفى عليهم كذلك أنهم يمثلون، في بلدانهم، مصلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية المتمثلة في رعاية مصادر الطاقة التي يزخر بها جوف ما يسمى بالوطن العربي، وفي ضمان الأسواق الواسعة لترويج فائض إنتاج مصانع ومزارع الإمبريالية الجديدة التي يشكل الغرب المسيحي إحدى كبريات قاطراتها والتي صارت تسمى في لغة المقهورين، النظام العالمي الجديد. وإذا كان قادة الأنظمة العربية يدركون هذا الواقع الذي يجعل منهم قصرا ضعفاء عاجزين عن حماية أنفسهم من الوحش الشرس الذي ينهش جسم أمتهم بنهم، فإنهم كانوا يعلمون ، كذلك ، علم اليقين أنهم لا يحظون بثقة الشعوب ومن ثمة فهم غير قادرين على الوقوف موقف الرفض ولا هم مستعدون للإقدام على نسف آبار البترول والغاز التي تلوث أجواءنا ولا تفيد غير القوات الإمبريالية. فذلك يتطلب إخلاصا للوطن وصدقا في العمل ويقظة دائمة واستعدادا للتفاعل مع رغبات الجماهير وطموحاتها وكلها مفقودة بسبب حالة الغيبوبة الدائمة التي تعيشها أغلبية طلائع المجتمع العربي وفي مقدمتها جحافل الحكام والمتعلمين. ولو لم تكن أغلبيتنا- وليضعنا القارئ في أية خانة شاء- في تلكم الحالة لما كان ما يسمى بالوطن العربي فقيرا متخلفا وهو يحوي في بطن أرضه مخزون الطاقة الذي يتحكم في مصير ثلثي البلدان الغنية المتقدمة وله من أبنائه آلاف العلماء الذين بلغوا أرقى المستويات التكنولوجية وهم يشتغلون لحساب الغير في مختلف مختبرات العالم، ولما كان الإنسان العربي يجوع في الوقت الذي تكفي إمكانياته الزراعية لتغذية عشرة أضعاف السكان العرب. وإذا كان الحكام العرب معذورين بأميتهم ، فأين يمكننا التماس العذر لذوي الأقلام الذين يسمون أنفسهم ،عن حق أو غير حق، مثقفين وصحافيين؟ وهل من المعقول أن تكون الكتابة من دون مرجعية تاريخية، ومن دون استنطاق النصوص الرسمية التي تشكل أساس المعالجة العلمية للمسائل الخطيرة مثل قضايا الاعتداء على الأرض والعبث بالكرامة والشرف؟ إن المرء، المتعلم قليلا فقط ،لا يكاد يصدق أن يتولى صحافي عربي محاولة إقناع قرائه بجدوى سلام قد يسمح للفلسطينيين بإقامة دولتهم على 5 % من أراضيهم المغتصبة بينما كان أسلافهم قبل حوالي ستين سنة، أي سنة 1937، قد رفضوا أن تقتطع المجموعة الدولية من بلادهم نفس النسبة لإقامة الكيان الصهيوني. أي منطق ذاك الذي يفرض على الفلسطينيين التنازل عن 95 % من أراضيهم مقابل السماح لهم بإقامة سلطة مستضعفة على ما تبقى من الأرض؟ وأي سلام ذلك الذي يبنى على تشريد الفلسطينيين من ديارهم وعلى ضم الجولان وجنوب لبنان إلى الأراضي المغتصبة لتكون جزء لا يتجزأ من كيان أساسه العنف والإرهاب؟ ولا يصدق المرء العاقل ، كذلك ، أن تتبنى الأنظمة العربية وشرائح واسعة من المتعلمين في بلدانها رؤية الإدارة الأمريكية لمسألة الديمقراطية فتقف إلى جانب الانبطاح الانقلابي في فلسطين ، وتدين الجهة التي حازت ثقة الجماهير الشعبية الواسعة، متهمة إياها بالقوة الظلامية، لا لشيء إلا لأنها عبرت عن إرادتها الرافضة للاحتلال ، ولم تخف توجهاتها الرامية إلى التمسك بالكفاح المسلح نهجا وحيدا لاسترجاع السيادة المغتصبة . إن التاريخ لا يستحي من أحد ، وسوف يسجل أن أنظمة عربية قائمة بذاتها قد وضعت نفسها في خدمة الامبريالية العالمية التي تتزعمها الولاياتالمتحدة ، وتطوعت لخنق أنفاس الثورة في فلسطين ولرهن مستقبل الأجيال في المنطقة ، وبذلك تكون قد ضمنت التواصل مع الأسلاف الذين خانوا الخلافة ، أثناء الحرب الامبريالية الأولى ، فحصدوا وعد بلفور، والذين اختاروا الارتماء في أحضان الحلفاء ، أثناء الحرب الامبريالية الثانية ، فكان جزاؤهم قيام الكيان الصهيوني ، والذين عبدوا الطريق لضرب البعث العربي الاشتراكي في العراق ثم شاركوا ،بوسائل مختلفة، في العدوان على بلاد الرافدين لتكون النتيجة حرب الإبادة التي تلتهم الأخضر واليابس في العراق والتي سوف تقود إلى إعادة رسم خريطة الوطن العربي على غرار ما كان قد وقع في الأندلس قبل الفناء والضياع . وسوف يسجل التاريخ ، كذلك ، أن إيران ليست هي عدو العرب بل هي سند لهم وحليف بجميع المعاني ، وأن أعداء الإسلام هم الذين يعملون ، بشتى أنواع الوسائل ، لزرع الشقاق بين الأشقاء ، ولإغراق كل منهم في محيط العزلة القاتلة حتى يتسنى الإجهاز عليه بكل سهولة . ومما لا شك فيه أن عدو الإسلام الأول إنما هو ذلكم الذي يدعم الكيان الصهيوني ليظل مغتصبا لفلسطين ومضطهدا لأهلها ، والذي يستعمل حق النقض لمنع ما يسمى بمجلس الأمن من اتخاذ أي إجراء ضد ه ، والذي لا يسعى لتجريده من أسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي يبذل فيه كل ما في وسعه من إمكانيات لتعبئة الرأي العام العالمي ضد مساعي إيران الرامية إلى اكتساب القدرة على الالتحاق بمجموعة الدول الموظفة للطاقة النووية لأغراض سلمية . وبالإضافة إلى كل ما تقدم ، فإن الأجيال ستطلع ، مشمئزة ومستنكرة ، على نتائج سائر المؤتمرات التي تعقدها بعض الأنظمة العربية ،من حين لآخر، تنفيذا لأوامر البيت الأبيض القاضية بتجويع الشعب الفلسطيني في غزة وبالتآمر على حركة حماس الجهادية . ولقد كان من الأفضل ، بالنسبة لتلك الأنظمة ، أن تعود إلى جماهيرها الشعبية ، مصدر السلطة الحقيقية ، فتستمد منها شرعيتها ، ديمقراطيا ، وتعتمد عليها في إعادة بناء الوحدة الشاملة وتشييد الدولة القوية . إنها، لو تتشجع وتفعل، ستكتب لنفسها الخلود وتجنب الأمة ويلات التشرذم والانقسام ولا تتسبب في حرمان رجال الغد ونساؤه من حقهم في الكفاح من أجل استرجاع السيادة والعزة والكرامة .