تقاطعت الألوان مع أشعة شمس صباح باكر مشكلة لوحة طبيعية نادرة الجمال، لتشق لنا بذلك الطريق نحو مدينة »إيول«، حيث اجتمع التاريخ بالجغرافيا وتواصلت الروحانيات مع ألفة الماديات لتنتج تمازجا فسيفسائيا لا يمكن أن تقرأ رموزه إلا إذا احتوتك طقوس عريقة امتدت على بعد عشرات القرون، أخذت لها منهلا استمد أصوله من كبرياء الإنسان البربري الذي أثرى وجوده مرور حضارات مازالت شواهدها خالدة إلى اليوم."إيول" أو "القيصرية" أو كذلك "شرشال" حاليا قصة أخرى في كتاب الجزائر الضارب في عمق الوجود. السير إلى "إيول" من العاصمة يستغرق اقل من ساعة زمنا لأنها لا تبعد سوى بحوالي 90 كلم في اتجاه الساحل الغربي.وأنت على ذلك الحال تحتضنك خضرة الطبيعة المتصلة برقة البحر في تناغم أزلي يحكي تفاصيل قصة الإنسان في هذه المنطقة وعلاقته بالأرض حيث استمات وتشبث بها رغم عواتي التجارب المريرة مع أمم حاولت وتطاولت على وجوده لانتزاع الهوية قبل الحيز الجغرافي، لكن أهل تيبازة وشنوة وشرشال بقوا على ما هم عليه إلى اليوم.متعلقين بالأرض والبحر وبالقيم والتقاليد التي استمدت من عبق تجارب التاريخ ومن عقائد رسخت في ممارسات أهل »شرشال القيصرية« بالدرجة الأولى إذ تكللت بتعاليم الدين الإسلامي وطقوس توارثها الناس عن أئمة ومشايخ تحولت مع الوقت إلى تراث محلي لا يمكن التخلي عنه، بل وتوريثه بالضرورة للأجيال المتتالية. "إيول" وأسطورة "الياسمين الأزرق" شرشال التي أخذت لها تسمية »إيول« التي استقبلت وفدا من طلبة المدرسة العليا للسياحة بالعاصمة رفقة عدد من الإعلاميين في إطار شهر التراث وفي سياق الجولات السياحية الترقوية التي يؤطرها النادي السياحي الجزائري، فتحت أبواب خزانة أسرارها وطقوسها في يوم ابتسمت فيه الطبيعة بحلة ربيعية نادرة الجمال. لم تخل الرحلة انطلاقا من العاصمة إلى شرشال من طرح كثير من التساؤلات خصوصا لدى الطلبة الذين كلفوا قبل التوجه إلى هذه المدينة للبحث عن إجابات وفك لألغاز اتصلت ببعض الأساطير على شاكلة »الياسمين الأزرق« الذي ورد ذكره في بعض الروايات.وإن كانت كلها تؤكد أن أصل النبتة التي استقدمت إلى المنطقة من الأندلس مع المسلمين الفارين إليها بعد سقوط غرناطة، نادرة الجمال وبقيت سرا واحتفظ بها عدد قليل من سكان شرشال. لكن حسب ما ذكره أهل المنطقة في الوقت الحاضر، فلا وجود ل» الياسمين الأزرق« ولو أن البيوت القديمة للمدينة مازالت تحتفظ إلى اليوم بنبتة الياسمين العادية في البيوت كرمز من رموز العطاء والخير، فلا يخلو بيت لا توجد فيه شجرة للياسمين التي تزين حيزا من المنازل القديمة إلى جانب شجرة الليمون التي لها قصة أخرى مع سكان شرشال المولعون منذ الأزل بأكل فواكه البحر والتفنن في تزيين موائدهم بها. "سيدي براهم الغبريني" رجل دين ومقام للتبرك.. الداخل إلى مدينة العلماء والتاريخ والفن الأصيل لا يجد حرجا من زيارة ضريح الولي الصالح والإمام الفقيه »سيدي براهم الغبريني« الذي يوجد على مشارف شرشال من الجهة الشرقية، والذي يعود إلى حوالي 8 قرون خلت، وإن كانت كثير من الروايات والأساطير حيكت حول مسيرة الرجل وتعلقه بالدين الإسلامي حتى أنه انتقل من المنطقة إلى العاصمة للتعلم ومنها إلى الزيتونة ثم الأزهر لتلقى ما أمكن من علوم الدين، إلا أن سكان شرشال وكثير من مناطق الوطن مازالوا تتكبدون عناء ومشقة التنقل لزيارة الضريح والتبرك به، وفي هذا السياق صادف وأن التقينا بأحد أحفاد الغبريني »الذين تمسكوا بالمكان ولازالوا إلى اليوم«، إذ أكد من جهته أن »الوافدين مازالوا يأتون وبأعداد كبيرة للضريح فيهم الكثيرون ممن يقصدونه للتبرك وإقامة طقوسهم هناك«. متاحف وآثار لا علاقة لها بالسياحة الثقافية وفي الضفة المقابلة ل »مقام سيدي براهم الغبريني« ينتصب المتحف الجديد الذي يحكي تفاصيل حضارات مرت من هناك عبر شواهد ونصب صنفت على مراحل منذ نشأة شرشال، وقد أسهب حمرة محمد شريف، الأستاذ المحاضر بجامعة الجزائر، في شرح وتفصيل خبايا المدينة وأسرارها، مستشهدا بالآثار المادية الموجودة بالمتحف الجديد وكذا المتحف الوطني الموجود وسط المدينة، لكن الملاحظ في كل مرة نمر بها على مثل هذه المواقع، غياب الوثائق والمطويات المفترض أن تكون دليل السائح والطالب وكذا المواطن البسيط الساعي إلى النهل من معارف وكنوز يراها بعينه ولا يدرك حقائقها. الانشغال طرح في كثير من المرات وفي عديد المحطات وكانت الإجابة واحدة »غياب الاهتمام الرسمي بالمواقع الأثرية، إذ يعد آخر اهتمامات المسئولين«، وهي الحقيقة التي لمسناها على أرض الواقع حتى أن بعض المواقع على غرار المتحف الوطني بشرشال وجدناه مغلقا أمام الزوار، فيما تساءل أفراد من أعضاء الوفد الزائر للمنطقة عن سبب هذا الغلق في وقت صادف وأن نظمت الزيارة لشرشال في يوم السبت الذي يفترض أن تتوافد فيه أفواج الزوار لهذا المعلم التاريخي والحضاري للمنطقة والجزائر ككل. وإن صادف وأن دخل الوفد المتحف الوطني للإطلاع على محتوياته فإن زواره من الطلبة على وجه الخصوص لم يجدوا ما يشبعون به فضولهم، لغياب المطويات أو أي وثيقة من شأنها التعريف بكنوز المنطقة والجزائر ككل.ولم يكن الموقع الأثري للحمامات الروماني أحسن حالا من كثير من المواقع الأثرية الأخرى. فقد طاله الإهمال بكل ما تحمله الكلمة من معنى رغم وجود حارس يستفز الزوار باقتراح بيع بعض المجسمات المصنوعة من الجبس وبعض الكتيبات القديمة التي لا صلة لها بتاريخ ولا بآثار شرشال وبأسعار خيالية. وما زاد هذه الصورة ألما في نفوس الزوار النفايات والأحراش التي غطت جزء كبيرا من الموقع.وهو ما دفع ببعضهم للتساؤل عن حال السياحة خصوصا منها الثقافية في بلادنا في وقت يصعب معه فهم ما يجري أو حتى مدى وعي المسئولين عن القطاع بأهمية ترقية هذه الأماكن وحمايتها بالدرجة الأولى..؟؟ ولو أن الشيء الوحيد والأكثر إلحاحا من طرف حراس هذه المواقع أنهم حريصون اشد الحرص على منع كل من يلتقط صورة تذكارية داخل المواقع الأثرية. قصبة تنهار في ظل صمت رسمي صريح.. لم تكن زيارة مدينة الأولياء الصالحين لتمر دون دخول قصبة شرشال المصنفة وطنيا، وعلى بعد خطوات من السير في اتجاه أزقة تقاطعت في أشمال هندسية تكسرت بفعلها رياح المواسم القاسية، تسجل مع كل خطوة حضور الطابع العمراني الإسلامي الذي يعود إلى القرون الماضية.لكن المؤسف في كل ذلك التآكل و الإهتراء الذي أصاب عددا كبيرا من منازل القصبة القديمة، و لم يبق من تلك الدويرات العتيقة في القوت الحالي إلا القليل، حتى أن بعض مالكيها رفضوا بيعها لأصحاب الأموال الطائلة رغم الإغراءات المقدمة، على غرار عائلة »سويلاماس« القاطنة بمنزل عتيق يعود ال القرن ال17 ميلادي والتي ناشدت في عدة مناسبات وزارة الثقافة عبر هيئاتها من اجل التدخل لإنقاذ هذا المعلم التاريخي قبل فوات الأوان، إذ مازال يحتوي على كل مرافقه بفضل الجهود التي بذلتها العائلة للحفاظ عليه. ويذكر أن المنزل كان مكانا لتصوير العديد من الأفلام خلال العشريات السابقة لأنه يعد نموذجا حيا للطابع المعماري الإسلامي في المنطقة. لكن حسب بعض أفراد عائلة »سويلاماس«، »لم يجد النداء لحد الساعة الآذان الصاغية، في وقت تهاوت منازل مجاورة بسبب عدم قدرة أصحابها على الترميم الذي يكلف يدا عاملة متخصصة وأموالا طائلة لتجسيد المشروع«.و بطبيعة كرم أهل شرشال أصر أهل الدار على ضيافة الوفد الذي نزل مرحبا بالدعوة التي استقبل فيها بالشربات التقليدية المعطرة بنكهة الكمون وكذا »المقروط« الذي أبدعت أنامل الشرشاليات في صنعه إلى جانب أباريق الشاي. الجلسة الحميمية مع أصحاب الدويرة امتزجت بكثير من التشويق خصوصا استذكار العاقدات والتقاليد التي تتميز بها المنطقة. ألغاز وطقوس، بوحمار...ومسجد صامد من القرن ال16 إن الديوان المحلي للسياحة الذي كان رفيقنا في هذه الجولة، لم يدخر جهدا لفك كثير من الألغاز للفهم لدى زوار مدينة شرشال وكذا الخوض في طقوسها وعاداتها التي ظلت راسخة إلى اليوم في ممارسات أهلها. وبتداخل البعد التاريخي للمنطقة مع انتمائها الحضاري الإسلامي، كان لابد من الوقوف على أهم معلم ديني في المدينة ويتعلق الأمر هنا بمسجد المائة »عرصة« أو عمود والذي يعود إلى القرن ال16، إذ يعد من أقدم المساجد حيث بني على أنقاض معلم روماني. وقد تحول خلال الفترة الاستثمارية إلى مستشفى عسكري ثم إلى دار للعجزة وبعد الاستقلال أعيد إلى طبيعته كمسجد. وحسب الوثائق المسجلة فان المسجد بني عام 1576 من طرف بن عياد الذي يعد من عرب الأندلس. و كان واحدا من المساجد التي قصدها الأمير عبد القادر خلال حملة التعبئة التي قام بها ضد الاحتلال الفرنسي إلى جانب محمد بن عيسى البركاني واحد من أعيان منطقة بني مناصر التي كان تمتد من حجوط حاليا إلى بني حواء.وكذا موسى بن علي بن حسين المصري الأصل والشهير ب»الدرقاوي« أو »بوحمار«، نظرا لأنه كان يركب حمارا وهو يتجول بين القبائل لحثها على الجهاد. "سيدي معمر"حكاية أخرى لنظام اجتماعي أصيل والمؤكد أن هذه المنطقة، حافظت على أصالتها ومازالت إلى اليوم.ومن بين ما تم التمسك به إلى اليوم ما يعرف ب»عوايد سيدي معمر« التي أسهبت إحدى نساء عائلة »سويلاماس« في الحديث عنها. وقد أرجع واحد من رجال العائلة اعتماد مبدأ قطعة العملة من فئة »ربع دور« كمهر للزواج من طرف الإمام والعرف بأصول الدين، إنطلاقا من تسهيل الزواج عند الشباب درء للفتنة وتجنبهم من الوقوع في المحرمات. إلى جانب التسوية بين مختلف طبقات المجتمع بعيدا عن التفاخر والتباهي وتسهيلا لزواج البنات بالدرجة الأولى. وإن كانت القواعد الذي وضعها »سيدي معمر« لأهل المنطقة جاءت لأهداف دينية واجتماعية مازالت سارية إلى اليوم، فإنها مع الوقت أخذت أبعادا وطقوسا امتزجت مع معتقدات وخرافات أصبح مع الوقت من الصعب الفصل بينها وبين تلك المقاصد التي أرادها صاحب »العوايد«، أن بعض الطقوس في مراسيم العرس أضحت ضرورية وإلا فإن أي فشل في الزواج أو أي حادث يقع بالصدفة أثناء العرس أو بعده فقد يرجع إلى وجود خلل في تنفيذ تعاليم »سيدي معمر«. ولو أن كثير من اهل شرشال يدركون أن الأمر متصل بالتطير لا غير فان البعض منهم يجبر نفسه على إعادة كل المراسيم المتصلة بالعرس وفق »عوايد سيدي معمر« خوفا من حدوث مكروه ما. لحظة من الزمن الجميل.. ومع ذلك تبقى شرشال بحكم موقعها التاريخي الحضاري والسياحي وكذا الديني ترقد على كنوز من التراث والروايات الشعبية المستلهمة من أصالة أهلها، حتى أن تلك الأبعاد كانت ومازالت موردا استفاض منه أبناء شرشال فنبغوا في كثير من الميادين العلمية والثقافية والدينية... بالفعل »القيصرية«، قبلة لا يمكن أن توفيها حقها مهما قلت والداخل إليها محظوظ، لأنه في كل خطوة يعيش تناغم الماضي والحاضر حين تتوقف عقارب الساعة في لحظة من الزمن الجميل..