رحل العارضون بشعوبهم النائمة وسط آلاف الكتب ، بعد إقامة دامت عشرة أيام، وبعد الرحيل لا أظن إلا أن القائمين على المعرض الدولي للكتاب في نسخته العشرين، يجلسون إلى بعضهم فرحين بما أنجزوا، ولكن قبل كل شيء عليهم أن يتحسّسوا مواطن القوة في تعزيز تقريب الكتاب من القارئ أكثر، وجيوب الضعف في حركة وصوله إليه بيسر وسهولة، في هذه التظاهرة التي يقولون إن زوارها تجاوزوا المليون ونصف المليون زائر، وإن كنت أتمنَّى لو أعلمونا كيف أحصوْا هؤلاء الزوار، سألت بعض الذين وجدتهم في طريقي المزدحم بالداخلين والخارجين، والمملوءة قلوبهم أسفا على ما يروْن أنه تمييز بينهم، وتصنيف يُسيء إلى سوق الكتاب في الجزائر، وإلى دُور النشر والكُتاب والقراء في نفس الوقت. لقد وُزِّع العارضون على مبنييْن: فضاء مركزيّ يحملك إليه السجاد الأحمر، حيث ضيفة الشرف الكبرى، أو صاحبة الدار، فرنسا، التي قال محافظ المهرجان: "إننا نرد لها الخير" فقد استضافتنا أكثر من مرة في معارض كتابها، وفيه اختير العارضون على حسب قرْب أكثريتهم، مما يُحبِّذ أصحاب الشأن أن يسمّوه "الحداثة" مع تطعيمهم ببعض دُور النشر، التي لم يُثِر أصحابها مشاكل فيما يُسمَّى بصناعة الكتاب وطبعه ونشره، ولا في مضامين ما طبعوا، وفيه أيضا مساحات مفتوحة خُصِّصت لبعض الأوقات الثقافية المُقتطَعة، التي نشّطها ضيوف المحافظ، القادمون من كل صوب وحدب ، وفيها اكتفى بالزيارة، وزير الثقافة الشاعر والأديب ، عز الدِّين ميهوبي، وفي الفضاء الثاني، حيث قاعة القصبة، تُدخِل رياح الصنوبر البحري الراكدة، الزائرَ إليها كيفما كان، وفي مساحة "القصبة" التي ضاقت بأصحابها فيما يُشبِه الدُّور القصديرية، حُشِر "الرجعيون" كما وصفهم أحد الملاحظين، وترى أصحاب اللِّحى والقمصان التي تنزل ببضع السنتيمترات على الركبة، يتزاحمون أكثر من غيرهم على الأجنحة التي يحوي معظمها، الكتب الدينية التي لا تستثير أغلبيتها الحاكم الإسلامي- أينما كان- بل تدعو له وتدعو باسم الدِّين على مَن يُظاهره، لأن الكتب الأخرى المثيرة بعربيتها للجدل المؤدِّي إلى العنف، قد تمّ حجزها أو منْعها من المشاركة في المعرض، وإن سُمِح للمكتوب منها بالفرنسية أو المُتَرجَم لها، بالعبور إلى أيدي القراء، حتى ولو مست مُقدَّسًا من مقدسات المسلمين. وأنت جالس في أيِّ جناح من أجنحة المعرض، سترى أن الممرات ملأى بالمارين في كل اتِّجاه، أكثر من أولئك الذين هم بأجنحة العرض أو البيع، حتى تظن أنك بأحد شوارع المدن الكبيرة، التي تعجّ بكل أصناف المجتمع ذهابًا وإيّابًا، وهذه إحدى ميزات معرض الكتاب، تُضاف إليْها ميزة أخرى، أثارت كثيرا من التساؤل والسخرية والأسف، وهي ظهور "بصْمَة" الحمار في الطبعة العشرين لمعرض الكتاب، من خلال كتيْبات للأطفال، من مثل : "هل أنت حمار شغل ؟" أو "كيف تُعلِّم ابنك الحمار بدون تكرار" وهي البصمة التي تجاوزت على ما يبدو لجان القراءة الصارمة، وتخطّت أخلاق الوزير عز الدِّين النبيلة، وتعدّت حدود تقاليدنا الجميلة، وإذا زدنا لها تعامل بعض أعوان الأمن مع الزوار بطريقة فجّة، تفتقر إلى أدب المعاملة، وكأنهم في مواجهة بطالين يبحثون عن عمل، لا يمكننا إلا أن نُعبِّر عن استيائنا، ونأمل أن يختفي كل ذلك في الطبعة الإحدى والعشرين، حتى تظل القراءة ولو رحل الكتاب. إن الإحياء الحضاري، لا يُبنَى وحده بالطقوس البروتوكولية، التي تُشهِر لمثل هذه التظاهرات، وتُعطِّر اللحظة العابرة ثم تتلاشى، إنما يكون بإطلاق سراح الفعل الثقافي الحقيقي، كيْ لا يُتّهَم القارئ الجزائري، بمعاداة القراءة أو هجرانها، وإيقاف منتحلي صفة مثقَّف، من أولئك السياسيين الذين تأذّت الثقافة- بمختلف صنوفها- مما يصنعون، وأعتقد أن ذلك يمر حتمًا، عبر إعداد خارطة طريق ثقافية، يشترك في أعدادها، المثقفون وليس الإداريين الذين تجلببوا بعباءة المثقّف بعد اختطافها، وسرقوا منه الطريق فاَضاعوا معالمها، وعلى ذلك فليصدق الإعلام فيما رأى، حتى لا يكون شاهد زور على مراحل تاريخية مفصلية، لأنه إذا ما أصررنا على السير بنفس المنهج، ستتأكد هذه الملاحظات بأنها خطة مدروسة، كما يرى الكثيرون، وليست انطباعات زائر، مثلما كتبت، وسيصرخ ساعتها في وجوهنا الشهداء، الذين يروْننا من خلال نوافذ شواهدهم ويلعنوننا، وإن لعنة الشهداء لعظيمة لو يعلمون ...