كلما افتقدت الجزائر واحدا من القادة الكبار، أجدني أعود إلى مقال للأستاذ عبد الحميد مهري، رحمة الله عليه، يرثي فيه الفقيد الرئيس محمد بوضياف، إثر اغتياله. كان المقال بعنوان "وداع وعهد"، ومما جاء فيه "سنحاول أن نوفيه حقه علينا بمواصلة النضال الذي جمعنا في سبيل الجزائر. سنحاول نحن البقية القليلة من جيل نوفمبر أن نواصل رسالة نوفمبر.. تلك هي الرسالة التي يجب أن يجتمع حولها جيل نوفمبر، والكلمة التي نودع بها الأخ محمد بوضياف، ونحن مطمئنون إلى أنها هي التي تجمعنا به في نهاية المطاف". لقد ودعت الجزائر فقيدها الكبير، في أجواء مهيبة وفي جنازة وطنية، كانت في مستوى قامة آيت أحمد وترجمت مكانة الفقيد لدى الجزائريين، أنصاره ومحبيه وخصومه. وصدق من قال بأن هناك من يختلف مع آيت أحمد، لكن ليس هناك من يختلف عليه، لقد اختلفوا معه، ناصبوه العداء، حاربهم وحاربوه، لكنهم يجمعون على احترامه والاعتراف له بأنه لم يساوم على مبادئه، لأنه لم يكن يحتاج لخاصية نفسه أي شيء، بل كل ما كان يبحث عنه ويسعى إليه، هو ذلك الهدف الذي وضعه نصب عينيه وظل يناضل من أجله: استعادة الوطن من المستعمر، استكمال السيادة الوطنية في كل أبعادها، ضمن منظومة حكم، يكون فيها الاحتكام للممارسة الديمقراطية. ذلك هو آيت أحمد، ابن الجزائر الثائرة، ابن القبائل الشامخة، الذي عاد من غربته التي دامت عمرا ليستقر في مثواه الأخير بوطنه الجزائر. لقد تعودنا على المنابر أن نقدم رجلا من رجالاتنا بالقول " إنه غني عن التعريف"، فذهبت هذه العبارة مذهب المجاملة، ترفع من قدر الشخص وتختزل أعماله وإسهاماته، ولكن نفس العبارة إذا قلناها عن قامة من قاماتنا، الفقيد آيت أحمد، فإنها تكتسي معناها الحقيقي، بحيث إذا ما ذكرناه في مناسبة، سياسية أو فكرية أو نضالية، عرفه الناس وتلاحقت في ذاكرتهم وفي وجدانهم، سلسلة الأفكار والمواقف التي صدرت منه، وظل وفيا لها، لا يتنازل عنها ولا يساوم فيها. لم يكن آيت أحمد يرى في نفسه أنه أسير جهة أو منطقة أو ولاية أو بلدة، بل كان يحلق في آفاق واسعة، هي بحجم الجزائر وشعبها وتاريخها وتطلعات أجيالها. لم يكن آيت أحمد، بجهاده ونضاله، يحصر نفسه في رقعة محدودة أو رؤية ضيقة، بل كان ينطلق دوما من وطنيته كجزائري أصيل، يضع نصب عينيه الجزائر أولا وأخيرا. إن إرادة آيت أحمد في أن يدفن في مسقط رأسه وإلى جوار والدته، تعكس الارتباط القوي بين الرجل وأرضه، هذا الوطني الكبير، الذي لم يغير جلده ولم يتنازل عن هويته، لأنه في الأصل لم يتنكر لوطنه الجزائر، في عمقها التاريخي وتنوع تراثها الثقافي وشخصيتها الحضارية، بأبعادها الثلاثة: الاسلام، العربية والأمازيغية. لقد عاد الدا الحسين إلى أمه الجزائر، إلى حضن شعبه بعين الحمام، بتيزي وزو، بجرجرة، وهو الذي لم يكن انفصاليا ولا جهويا ولا انعزاليا، بل كان حارسا للوحدة الوطنية، مدافعا عن ثوابت الشعب الجزائري، كان ميلاده في آيث أحمد، لكنه كان ابن الجزائر الواحدة والموحدة، التي لا تقبل التجزئة. ذلك هو آيت أحمد الجزائري، المناضل الشريف، المجاهد الوفي، الوطني المخلص، الذي تحبه الجزائر وتحزن لرحيله، الذي يلتقي حوله الجزائريون، على اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية، وهذا ما جسدته جنازة الفقيد، حيث التقى حول جثمانه، الذين اتفقوا معه والذين خاصموه. لقد فقدت الجزائر كلها ابنها المجاهد آيت أحمد، فكان الوداع وكان العهد على مواصلة رسالة نوفمبر، تلك الرسالة التي يجب أن يجتمع حولها كل الجزائريين. ذلك هو آيت أحمد الجزائري ، الذي ودعته الجزائر بألم وحسرة، وهي التي تفتخر اليوم وغدا بجهاده ونضاله واستماتته من أجل قناعاته ، والذي سيحفظ له التاريخ مواقفه التي هي محل تقدير لدى كل الجزائريين، في سبيل الوحدة الوطنية والسلم والمصالحة وتماسك المجتمع وعدم التدخل الخارجي في الشؤون الجزائرية. وداعا.. الدا الحسين الجزائري، الذي قد يكون هناك من يختلف معه، لكن ليس هناك من يختلف عليه.