يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه، هذه مقولة تصلح للحالة الفرعونية حينما سعت مصر الرسمية إلى إلغاء الجزائر بسبب جلد منفوخ لا يزيد وزنه- مبللا- عن الخمسمائة غرام، فإذا بها تعرّي مصر الكبيرة المحصنة، وتنزع عنها آخر قطعة تستر، وهي التي ظل العرب يضعونها في منزلة القدّيسين الذين لا عورة لهم . انقشع غبار المقابلة الكروية التي جمعت الجزائر بمصر عن خيمة كبيرة بالية تسمى مصر، يحتكر تفاصيل العبث بها تحالف نظام سياسي فاسد وسفه إعلام ساقط، أما ما كان يعرفه العرب عن تلك الجغرافيا التي تشدها فقط الأهرامات والأسماء الكبيرة التي أطاح بها هذا التحالف المقيت، فقد رحلت تلك التي كانت تشد الرحال إليها إلى زمن آخر بعيد، بعدما جرّت اتفاقيات اسطبل ديفيد-على لغة ليبيا الثورية- عربتها وفصلتها عن باقي قطار العروبة الذي قاده جمال عبد الناصر ورفاقه من مختلف الدول العربية، وأصبحت كل المفردات التي احتواها قاموس تلك العروبة وما يتبعها من شعارات، باهتة بلا معنى ولا مضمون، كشعار الأخوّة في الدين واللغة والتاريخ والمصير، إلى غير ذلك مما أسقطه هؤلاء الحمقى في لحظة عبث عابرة، ولكنها أيقظت كل ذي طيبة مخدر بحب مصر التي ارتحلت، وفتحت عيون العرب على حقائق هي الآن بلا شك إحدى نقاط رسم إستراتيجيتهم الجديدة في ألفيتهم الجديدة . حاولت مصر الرسمية بعدما تصهينت باتفاقيات الجيرة الصهيونية استثمار مصر الناصرية، فاحتوت كل المؤسسات التي تدعو إلى تعزيز الجهد العربي المشترك، ابتداء من الجامعة العربية وما تفرّع عنها من منظمات، إلى الجمعيات والاتحادات المهنية المتعددة، وتحوّلت القاهرة إلى أكبر متجر عربي للمهن السياسية، حتى أصبح يحلو للمصريين أن يسموها- ظلما ونفاقا- عاصمة للعرب، واستطاعت- إضافة إلى الدخل المالي الكبير الذي تجنيه من وجود هذه المقرات، أن تجعل منها أداة سياسية في مقاومة روح التحرر العربي، من هيمنة الفكر الانهزامي أمام الأيديولوجية الصهيونية، بل أجهضت كثيرا من المبادرات العملية لهذا الاتحاد أو ذاك، الساعية إلى تأمين الحق العربي في الحرب المفتوحة على الأمة العربية الإسلامية، وتحوّلت من رأس حربة لها إلى شوكة كبيرة انغرست في مواطن القوة فيها فلم تعد تقدر على السير، وتكون وراء بعض أولئك الذين ولوا وجوههم شطر العصابة الصهيونية جهارا أو تسترا خوفا أو طمعا . مارت سياسة قاهرة ما بعد عبد الناصر، عملية تخدير إعلامي للرأي العام المصري، ابتدأت باستنساخ التلفزيون الرسمي إلى عشرات النسخ التي عدّل بعضها على علب الرقص وهزّ البطون ونشر المجون على الهواء، وفتح بعضها الآخر على أوكار الدروشة وإصدار الفتاوى الدينية الجاهزة طبقا لما يراه شرع الحاكم، ودخل بعضها الثالث في فوضى الحديث المرسل الذي لا هدف منه إلا ملء الوقت الضائع من حياة الشعب المضاع، فغطّت هذه النماذج- لقوة آلتها الدعائية- على كل الأصوات الحرّة الأصيلة، ضعيفة العدة- ماليا وسياسيا وإعلاميا- والتي كانت تتألم لحال أمة كان العرب يرونها بداية عدّهم في حساب الزمن نحو المستقبل، وكما فعلت هذه السياسة بالمصريين ما فعلت، فإنها تحايلت على العرب جميعهم واستطاعت استثمار المنظمات والجمعيات الحقوقية والطبية والهندسية والصحافية وغيرها، في مسألة أحقيتها بالريادة ولكن في الاتجاه المعاكس، ولم يشأ أحد من هؤلاء العرب أن ينكر على الشقيقة »الناشز« أفعالها التي تناقض أقوالها، ولم يرد إغضابها أو»زعلها« الذي لا يقدر عليه أحد، حتى التقت بالجزائر في مجرّد لعب كروي، أخذتها فيه العزة أن تنافسها فيه هذه الشقيقة »سابقا« وتفرح به ولو مؤقتا، ولرفضها مبدأ التفوق عليها من أي كان من عرب تضعهم- وهي المفتخرة بفرعونيتها أكثر- من الدرجة الثانية، أخرجتها من دائرة المعارف العربية، ولم يعد الجزائريون بذلك سوى شتات من البشر الهمج التائهين على أرض متحركة، لا تاريخ يربطهم ولا لسان يوّحدهم، ولولا كرم النظام المصري ما تحرروا من أبشع استدمار استيطاني عرفته البشرية، ولما تعرّفوا على لغتهم التي كان يعلم بها في القاهرة الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري قبل ثورة يوليو عام 1952، ولما عادوا إلى دينهم الإسلامي الذي كان يحميه الشيخ لخضر بلحسين على رأس الأزهر يوم كان حرا لا يأتيه الباطل من أي جانب . أقامت القاهرة من أجل التغطية على السير في الاتجاه الخاطئ، العديد من المهرجانات الدعائية التي تحاول بها جذب أكبر عدد من الدول العربية، وإدخالهم في خانة المشاركة الرمزية، كما يحدث دائما في مهرجان القاهرة للإعلام »العربي« الذي تسطو فيه على معظم الجوائز المالية، بينما توزع الأخرى التي لا قيمة لها سوى ما يحمله المجسم أو التمثال على بقية الأرقام المشاركة، بعدما تكون أغرت بمشاركة أوسع مدفوعة الأجر، ففي مهرجانها الخامس عشر- مثلا - الذي عقد في شهر نوفمبر الماضي بالقاهرة، حصدت في مقابلة الإنتاج الإذاعي ثماني عشرة جائزة ذهبية مالية من أصل ثلاثين، وأخذت في مسابقة الإنتاج التلفزيوني أربعا وثلاثين جائزة ذهبية مالية من مجموع سبع وستين، وكأن الدول العربية الأخرى مصابة بالعقم الإذاعي والتلفزيوني، بينما الواقع يؤكد أنها الأكثر تطورا في الفترة الأخيرة، ممن ظلوا محكومين بنظرية الدعاية التي حرّمتها البشرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد استطاع العرب في مهرجان المبدعين والرواد العرب الذي عقد بالعاصمة الأردنية عمان في بداية شهر ديسمبر الجاري، أن يتخلصوا من العمش المصري، ويحكّموا المقاييس المهنية في تقييم الإبداع، وبذلك توزّعت الجوائز على المبدعين حقا من مختلف الدول العربية المشاركة، واستطاعت الجزائر- التي عيّرها سفهاء مصر وموظفو النظام في الإعلام والدين والثقافة- أن تفتك وبجدارة ثلاثة من دروع الريادة على المستوى العربي، بفضل فرسان الكلمة والقلم والميكروفون: توفيق ومان في الشعر الشعبي، وفاطنة ولد خصال في التنشيط الإذاعي، وعبد الرزاق بوكبة في التنشيط التلفزيوني . لا بد للمجموعة العربية أن تعيد النظر في الكيفية التي تتموقع بها المنظمات والاتحادات المهنية المكدّسة في القاهرة، بإعادة توزيع مقراتها على الدول العربية، تماشيا مع التطور الذي تكون هذه الدولة أو تلك قد قطعت فيه أشواطا بعيدة، كأن يكون الأردن مقرا لاتحاد الأطباء العرب مثلا، نظرا للنهضة الطبية والصيدلانية المسجلة في هذا البلد، وأن يكون اتحاد الفلاحين في السودان أو سوريا، تبعا لما لهذين البلدين من أراضي زراعية وإمكانيات فلاحية معتبرة، وأن يكون اتحاد الحقوقيين في الكويت أو الجزائر، لما لهاتين الدولتين من حراك على مستوى تطوّر التشريع، وأن يكون اتحاد الصحافيين العرب في قطر أو الإمارات العربية المتحدة، لكون هذين البلدين أصبحا إمبراطورتين كبيرتين للإعلام المحترف العابر للقارات بهموم المنطقة وآرائها وحقيقتها . إن هذا المقترح ليس وليد لحظة غضب تمر، إنما هو نتاج انكشاف المستور على الزّيف الكبير الذي عاشته الأمة منذ أكثر من ثلاثين عاما، فمصر الرسمية قالت إنها لم تعد طرفا في المسألة العربية الصهيونية، بل هي وسيط أثبت أنه غير نزيه في كل المسائل التي تولاها، ولأن شرفاء مصر وأحرارها لم يستطيعوا أن يغيّروا المجداف السياسي في قارب النظام، نتمنى أن يستعدوا ويعدوا- بجد- لمعركتهم القادمة، من أجل إعادة مصر إلى سكة سيرها الطبيعي، وإلى ذاك الحين ندعو إلى تفعيل مناطق الضوء في مختلف البلدان العربية، والتي عمل الرسميون في مصر الجانحة على إبقائها خافتة، لأن نظاما يعيد بناء ذاته الفرعونية كأولوية لديه، ويتخندق إلى جانب أعداء الأمة العربية الإسلامية، لا يستحق، ولا يحق له أن يأوي بأي جال من الأحوال، مقار المنظمات والجمعيات ذات الصلة بالنضال العربي الدائم ضد التمدد الصهيوني العنصري ...