آيت سالم عبدالقادر وجبهة التحرير مُقبلة على عقد مؤتمرها التاسع، أبيت إلا أن أقول كلمة، أساهم بها في النقاش الدائر حول هذا الحدث الجليل، أعبر فيها عن انطباعاتي إزاء ما يجري في هذا الإطار، وأدلي برأيي المتواضع في بعض القضايا ذات الصلة بهذا الموعد المفصلي في تاريخ الجبهة والوطن، وإذ هممت بصياغة أفكاري في هذا السياق، تذكرت مقالا نشر منذ أسابيع في إحدى الصحف الوطنية تحت عنوان:"مناضل ومناضل وجبهة وجبهة". بالعودة للحملة المغرضة التي تعرضت لها الجبهة أقول بأن "رب ضارة نافعة"، فلعل بل أكيد أن هؤلاء المرجفين الحاقدين قد أفادوا الجبهة من حيث أرادوا الإساءة إليها، فقد كانت لحملتهم السخيفة تداعيات إيجابية تمثلت في صحوة جديدة في أوساط الحزب، جعلته يستيقظ من غفوته ويتخلى عن الثقة المفرطة والشعور بالإطمئنان والأمان النابع إلى حد ما من ارتباطه الذي يكاد يكون عضويا بالسلطة، قلت حسنا فعل هؤلاء المتطاولون من حيث أرادوا الإساءة للجبهة، حيث كانت لحملتهم الدنيئة الظالمة ردة فعل سريعة، جعلت الحزب يستنفر أبناءه على جميع الأصعدة والإنطلاق في عملية مراجعة ذاتية طالما دعونا إليها•• تلك المراجعة التي لمس الجميع آثارها الإيجابية على الأشغال التحضيرية للمؤتمر التاسع• ومع التسليم بأن المراجعة المنشودة لا تتعلق - ولا يمكن أن تتعلق – بالثوابت والمنطلقات الأساسية، إلا أن بعض الإخوة أسهبوا في الحديث عنها بشكل يعطي الإنطباع بأن الحزب مقبل على إعادة النظر في مرجعياته الثابتة - فكأن هؤلاء الإخوة يؤكدون من حيث لا يشعرون، مزاعم المدعين بأن جبهة التحرير الأصلية الأصيلة قد انتهت مهمتها وأصبحت تراثا وطنيا مشتركا للشعب يحتفى به في المناسبات الوطنية ويرجع إليه في الدراسات والأبحاث التاريخية ليس إلا، كما أن تكرار الكلام عن ضرورة مراجعة المنطلقات الفكرية قصد تحديثها قد يصب في خانة من يزعمون بأن جبهة التحرير قد تجاوزتها الأحداث وانحرفت عن مسارها مما يحتم على أبنائها "الأوفياء" كما يصفون أنفسهم، على استرجاعها من يد مختطفيها، وكأن الثورة حكر على طائفة دون غيرها من أبناء الشعب. وبهذا الصدد لا بد من الاعتراف- على عكس ما يرى البعض - بأن جبهة التحرير ملك لجميع الجزائريين بحكم أنها البوتقة التي انصهرت فيها الحركة الوطنية بكل أطيافها ولكونها رمزا للكفاح التحريري الذي شاركت فيه مختلف شرائح المجتمع الجزائري باستثناء فئة قليلة ضلت الطريق فانتهت إلى مزبلة التاريخ. إلا أن الجبهة كحزب سياسي، هي ملك لمناضليها الذين اختاروا الإستمرار في النضال داخل صفوفها لخوض معركة البناء بنفس الإيمان وعلى أساس ذات المبادئ التي قامت عليها ثورة التحرير بقطع النظر عن قيمة ونتائج هذا النضال. وبناء على هذا نقول بأننا نرفض كل الشعارات الداعية إلى المساس بالثوابت بدعوى التطوير والتجديد، فالتطوير والتجديد بالنسبة لنا ينحصر في البرامج والمناهج وأساليب التنظيم والعمل، ولا يطال بأي وجه من الوجوه أسس الأرضية الفكرية الثابتة للجبهة والمتمثلة في بيان أول نوفمبر. ومن يرى غير ذلك، فما عليه إلا أن يؤسس حزبا آخر كما فعل الكثير ممن كانوا ينتمون إليها ثم انفصلوا عنها خاصة منذ إقرار التعددية، ومنهم من عاد إلى صفوفها بعد أن طال به الترحال والتجوال. ونستطرد هنا للقول بأن ظاهرة التنقل من حزب إلى حزب، حسب الظروف، وبدوافع لا علاقة لها بالقناعات السياسية، إن دلت على شيء، فإنما تدل على تذبذب وانتهازية هؤلاء الرحالة "السياسيين" إن صح التعبير، ولذا ندعو إلى عدم استقبالهم في صفوف الجبهة إلا بعد التحقق والتحقيق في الأسباب والدواعي التي دفعتهم إلى هذا النزوح السياسي، أو السياحة السياسية على حد تعبير أحد الإخوة الكتاب المحترمين. وفي نفس الإطار - وحسب رأينا المتواضع - فإن الإنتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية لا يقضي حتما بإعادة النظر في الأدبيات والمنطلقات والنظريات السابقة، بل بالعكس يجب الإصرار عليها تثبيتا لخصوصية حزب جبهة التحرير وتكريسا لتميزه عن الأحزاب الأخرى التي تبدو في أغلبها- ولا أقول كلها - مستنسخة لا هوية ولاشخصية لها. إلا أن هذا لا يمنع أبناء الجبهة من التفكير - بل ويجب عليهم التفكير - في استراتيجيات ومناهج وتصورات جديدة للعمل، تتماشى مع مستجدات المرحلة الراهنة، ومن ثم صياغة برنامج دقيق وشامل على ضوء اقتراحات المناضلين واستجابة لتطلعات المواطنين الذين أرهقتهم الشعارات الديماغوجية والوعود الوهمية، وهذا ما نتمنى أن يتكفل به المؤتمر المقبل، إن أردنا أن يكون له هدف ومعنى. ولهذا نعود للتأكيد على ضرورة التزام الصرامة في عملية انتخاب المندوبين لحضور هذا المؤتمر الحاسم، وبهذا الصدد لا أفهم بعض الإخوة عندما يدعون إلى تخفيف شروط ومعايير المشاركة معتبرين خطأ- ولو عن حسن نية - بأن التطبيق الصارم للمقاييس المحددة لتعيين المؤتمرين قد يؤدي إلى إقصاء الكثير من الطاقات الجديدة ذات الكفاءة العالية. فعلى أصحاب هذا الرأي أن يعرفوا - وهم يعرفون بالضرورة - أن الحزب ليس جمعية خيرية أو منظمة للمقاولين ولا هو ناد لهواة السياحة السياسية. إن للنضال الحزبي ضوابط وللمناضل صفات أشرنا إليها في أول هذا الحديث وكل تهاون في مراعاتها يعرض الحزب للإختراق وقد يؤدي به- لا سمح الله - إلى التميّع والإنحراف والمسخ بكل ما لهذه الكلمات من معنى سلبي وأثر هدام، ومرة أخرى لا نجد دليلا على ما نقوله، أوضح من قضية الإنتخابات النصفية لمجلس الأمة وما أبرزته من خلل ناتج عن التصرف المتخاذل لبعض المناضلين الذين ضربوا عرض الحائط بالتعليمات والتوجيهات الحزبية، فهل بعد هذا نُلام على حرصنا على التقيّد بالضوابط والإلتزام بالمعايير في اختيار الرجال!؟. إن المؤتمر لقاء بين المناضلين لتقييم المسيرة السابقة ورسم آفاق ومعالم المستقبل، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة الحساسة إلا رجال عايشوا تجربة حزب جبهة التحرير في السراء والضراء وبرهنوا على ثباتهم في ميدان العمل النضالي رغم العواصف والهزات، ولئن كانت الجبهة في عهد الحزب الواحد مفتوحة للجميع بالضرورة، لكونها الهيكل السياسي الوحيد آنذاك، فقد تغيّر الوضع بعد التعددية وآن لحزب جبهة التحرير ألا يضم في صفوفه إلا من يؤمن إيمانا راسخا بالثوابت والمنطلقات التي كرستها مواثيق ولوائح جبهة التحرير، وهذا لا يعني بالطبع غلق الأبواب- فالعكس هو الصحيح - أمام الطاقات الحية الملتزمة من مثقفين وشباب ذكورا كانوا أم إناثا على حد سواء، أقول على حد سواء لأني لست من أنصار نظام الحصص أو "الكوتا" التي يدعو إليها البعض ، فمع احترامي لأصحاب هذا الرأي، وإقراري ببعض مبرراته يبدو لي أن هذه الصيغة التي تعود بنا إلى أسلوب طالما خبرناه في عهد الواحدية الحزبية، تحط من شأن المرأة من حيث تسعى إلى إعلاء مكانتها، فالمرأة الجزائرية ليست قاصرة ولا عاجزة، وكيف تكون كذلك، وقد أثبتت وجودها في كل الميادين وعلى جميع الأصعدة، كيف تكون كذلك وعدد الجامعيات يعادل أو يفوق عدد الجامعيين، كيف تكون كذلك ونسبة الأطر من النساء تساوي أو تزيد عن نسبة الرجال في مختلف القطاعات، فالمرأة اليوم وزيرة ومديرة ووالية وقاضية ومحافظة شرطة إلى آخره، فكيف نتحدث إذا عن تخصيص "كوتا" للنساء، وكأنهن أقلية مستضعفة!.. أضف إلى ذلك أن هذا النظام يحد من مجال التنافس ويحصره على نحو يثبط عزيمة المرأة ويثنيها عن الإجتهاد والعمل من أجل التفوق والإرتقاء إلى مناصب سياسية واحتلال مواقع قيادية تفوز بها عن جدارة ودون فضل أو منّة من أحد. ومع ذلك واعتبارا لأن المؤتمر القادم سيؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الحزب، فلا بأس ولا مانع من اعتماد "الكوتا - على وجه الإستثناء وليس القاعدة - في هذا الإستحقاق الهام، على شرط أن تتم العملية في جو من الديمقراطية والشفافية واحترام المعايير، الشيء الذي يضمن بروز عناصر مؤهلة وجديرة بتمثيل شرائحها أحسن تمثيل، وفي هذا السياق نقول إن بيت جبهة التحرير مفتوح اليوم كما كان بالأمس لكل مواطن شريف أو مواطنة شريفة يرغب أو ترغب في الإنتماء إليها على أساس الإقتناع بمبادئها والتقيد بمواثيقها وقوانينها ولوائحها، فما على هذا المواطن أو هذه المواطنة إلا الإنخراط في خلايا الحزب حيث يتكون تكوينا فكريا وسياسيا، ثم الإنطلاق، متشبعا بمبادئه في العمل الميداني بإيمان والتزام وولاء يؤهله لحمل راية جبهة التحرير وتمثيلها أصدق تمثيل، إذ لا يعقل أن ينخرط الشخص اليوم، في صفوف الحزب، ليصبح بعد أيام عضوا في قيادته وممثلا له في الهيئات والمجالس الوطنية، قبل أن يثبت جدارته ويبرهن على أهليته لتقلد هذه المهام النبيلة والحساسة. إن حزب جبهة التحرير - والحمد لله - يزخر بعدد هائل من الشباب المخلص الذي برهن على كفاءته والتزامه وولائه الحقيقي لجبهة التحرير، وهؤلاء لابد من تشجيعهم وتمكينهم - مع مراعاة الضوابط بالطبع - من المشاركة في مؤتمر أهم مهامه التخطيط لمستقبل هو مستقبل الشباب قبل غيرهم. وفي هذا الإطار، ورغم النقائص التي لا تخلو منها أي عملية بحجم وأهمية التحضير لمؤتمر جبهة التحرير، لا بد من التنويه بالأسلوب الحكيم والجدية الفائقة التي تميزت بها الأشغال التحضيرية للمؤتمر والتي حرص الأمين العام على متابعتها والإشراف عليها شخصيا، تفاديا لكل انحراف عن الخط المرسوم من طرف القيادة بشكل جماعي، لكن المهمة لم تكتمل بعد، ويجب التحلي بكثير من اليقظة في المراحل الأخيرة من التحضير لإجهاض كل المحاولات الهادفة إلى إفشال هذا الحدث الهام. وخلاصة القول إن المؤتمر المقبل مؤتمر مفصلي وحاسم، ولهذا يتعين على الجميع توخي الحكمة والتروي وتحاشي الارتجال، فالتحضير الجدي والعقلاني هو وحده الكفيل بضمان الخروج من هذا التجمع المصيري بتوصيات وقرارات عملية ملزمة للجميع من شأنها أن تعيد للحزب قوته وهيبته ولا سيما روحه الثورية التي هي أساس مصداقيته وشعبيته وديمومتة.