قد يبدو من الحكمة أن نصمت عن الحديث المعاد في كل مرة عن ضرورة محاربة التلويث والتشويه والتحطيم الذي يطال البيئة أمام أعيننا في كل لحظة، وأن نفكّر جديّا في توظيف ما نقول إنها إمكانيات كبيرة ُرصدت وأموال ضخمة ُوظفت وطاقات متنوعة ُجندت، حتى حسبنا أن تخليص كوكب الأرض يبدأ من تطهير البيئة في الجزائر، وأن نوجّه ذلك الجهد الوطني الكبير، فيما يمكن أن نقرن فيه أقوالنا بأفعالنا، بعدما حاصرْنا هذه البيئة المغبونة حتى خنقناها، وحوّلنا محيطنا كله إلى ما يشبه المفرغة العمومية الكبرى التي أصابت جميع مظاهر الحياة فينا ومن حولنا بالعطب والإعاقة . لم يتغير- نحو الأفضل- حال البيئة التي شكوت حالها- وما زلت- إلى الوزير شريف رحماني، ودعوته قبل أكثر من عامين إلى معاينة مساحة منها لا يتعدى طولها الخمسين كيلو مترا، كنموذج لسوء وضعها أو قل لحالة احتضارها، واقترحت عليه أن يستسمح الوزير غول ويترك الطرق الوطنية أو السيّارة، فتلك أصبحت فخاّ لكل عابري السبيل، يعانون فيها ويلات الزمن المعطّل وضنك الانتظار الذي لا تُعرف له نهاية، ويلهيهم حتما عن أي تعليق حول ما حدث للبيئة على تلك الطرق، وما تعرضت له الأشجار المعمّرة من تخريب، أو ما أصاب المغروسة منها حديثا في إطار حملات التطوّع والتشجير من إهمال مميت، وأن يمتطي القطار سواء الكهربائي السائر في صمت، والذي روّج له وزير النقل كثيرا قبل أن تشله آفة انقطاع الكهرباء الآتية من حيث لا يحتسب، أو القطار المازوتي الذي ورثه الوزير تو عن حظيرة زملائه من الوزراء السابقين، وهو القطار الذي يفتح أبواب عرباته على جميع الاتجاهات في وجه الصاعدين والنازلين، ولا يهم مسيّريه أن يتبادل قطاران متقاطعان الركاب بينهما بأبواب مشرعة على مصراعيها في عملية لا تخلو من مخاطر على الركاب الذين يقفون في مرات عديدة أمام مشهد رجل دهسته بعض العربات أو امرأة سقطت من باب لا يغلق، وكنت اخترت"لصاحب دعوتي" محطة بومرداس كنقطة انطلاق لرحلة تنتهي في محطة أغا، ولكن "معاليه" يبدو أنه لم يعر بطاقة دعوتي أي اهتمام لسبب أو لآخر، أو لم يطلعه عليها مقرّبوه ومستشاروه كما يفعل نظراؤهم في البلدان المتقدمة، ومع تفاقم الوضعية واشتداد ما أعتبره أزمة، وجدتني- متأسفا- مضطرا إلى تجديد تلك الدعوة، مع علمي أنها ليست بمقام السيد الوزير، ولكن يحدوني أمل في أن يتم بها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بيئة تتحلل . وأنت واقف تنتظر قدوم القطار- الذي قلما يلتزم بالوقت الذي حددته إدارة القطارات بنفسها، وربما لذلك فساعات معظم المحطات متوقفة على أوقات مختلفة- يشد انتباهك إلى اكتشاف المحطة- تسرّبُ للمياه القذرة ينزل من عل، يزداد أو يقل تبعا لما يصبّه أصحاب المحلات الواقعة في الطابق العلوي، وتقضي تلك المياه على كل جميل كان يمكن أن يحيا أمام أنظار المسافرين، وتزكم أنوفَ المنتظرين الروائحُ الكريهة التي تركها وراءهم مَن لم يجدوا أين يقضون حاجاتهم، أو لم يقدروا على استعمال المراحيض التي تطرد بنتانتها كل من طاردته حاجته، ولن يزول عجبك لما يجري إلا بانتفاضة الركاب الذين يخرج من كان منهم تحت سقوف صنعت لتقي من حرارة الشمس وتسرّب مياه السماء، ولكن بعضها تحوّل إلى ما يشبه مرشّات الحمام في فترة الأمطار، يتزاحم الناس في الصعود إلى العربات بعد توقف القطار، حتى يكادوا يمنعون الذين انتهت رحلتهم من النزول، وبعد صعوبة إيجاد مكان للوقوف فقط، تبدأ رحلة أخرى مع ما ستصفعك به مناظر مزعجة للبيئة، سواء أكنت واقفا إلى ميمنة العربة أو ميسرتها، فالشيء نفسه يكرّ ره عبث الإنسان، ويصادق عليه صمت مَن يعنيهم أمر البيئة من تدهور في النظافة والعمران والفلاحة، وهي الوجوه الثلاثة المشوَّهة التي رمت باتساخها على البيئة عبر تلك المسافة : 1- أول ما يصدمك عندما يتمدّد بك القطار، هو النمو المتوحّش للأعشاب والحشائش الضارة والأشجار البرية التي لم ُتعقْها الردوم والقاذورات وما تخفيه أكياس البلاستيك، التي حجبت كلها معالم الجمال على حاشيتيْ سير القطار، وكما سدّت بعض مسالك تصريف مياه الأمطار، فكذلك فعلت مع الأودية التي تجاوزت العشرة والتي يتخطاها القطار جيئة وذهابا، لم يبق من ملامحها إلا الأخاديد التي حفرتها بقوة في الأرض المواد الكيماوية السامة، أما لون السوائل التي تحملها فتلك مسألة على الخبراء والمختصين في الصحة ومحاربة التلوث، أن يفكوا طلاسمها بالإسراع في دراستها وتفكيكها إلى أجزائها الأساسية الأولى، قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه في البحر وثروته الطبيعية، والظاهرة الغريبة وسط هذا الديكور المحزن، أنه على جنبات كل وادي من تلك"المجاري"الكبيرة، تنبت بيوت قصيرية بكل مرافقها من دكاكين وحظائر للحيوانات يتجاوز بعضها الآلاف، كما هو قائم على ضفاف وادي الحراش، أو بضع مئات، كما هو الحال في مدينة رغاية القصديرية، أو بضع عشرات، كما يبرز ذلك جليا في قلب مرتفع بلكور، ولا تحمل مدن الصفيح تلك من معالم الحياة، سوى ما زوّدت به شركة سونالغاز سكانها من خيوط متداخلة، عديمة السلامة والأمان، أو من بقايا علم وطني وراية تغيّر لونها ولم تعد تحمي ناشريها كما ظلوا يعتقدون، وتشهد هذه المدن الهشّة نموا سريعا، يعبّر عن خصوبة كبيرة بين أفراد مجتمع تلك المدن البائسة، فلا يمر يوم إلا وينبت بيت جديد، يضيف مأساة إلى سكان هذا التجمّع، ويزيد في فرملة حركية التطور الذي تنشده البلاد، ويدلل على التخلف الذي يصرّ البعض على إبقائه قائما بيننا . 2- وإذا تركت القصدير وما يخفيه، فسيتلقفك البناء الفوضوي الآخر، الذي زحف فيه الإسمنت المسلح على كل شيء أخضر، ويصفعك الآجر الأحمر العاري والحديد البارز كالأشواك المتداخلة الصاعدة إلى عنان السماء، كأنما تدعو على من أساء إلى العمران، ولا تكاد تفارقك هذه الصورة مع كل البناءات الجديدة التي يسميها أصحابها فيلات، وهي مزيج بين مجموعة من الشقق المتراصة فوق بعضها، وبين أكوام من المباني المهملة، التي لو استفتت المصالح التقنية فيها لأفتت بعدم صلاحية الكثير منها، وبين مجموعة من الأطلال يأتيها أصحابها من حين لآخر، حتى كاد هذا الطابع غير العمراني أن يكون علامة مميّزة لجزائر ما بعد استرجاع الاستقلال، ولولا أشرطة متقطعة من اخضرار ما زالت تئن وسط البناء المتوحش والقصدير الزاحف تقطع عليك رتابة الرؤية الحزينة، لأصابك حوَل أو عمىَ الألوان . 3- لقد انحسر الاخضرار بشكل مفزع- عبر المسافة التي جعلناها عيّنة لحديثنا- وهي التي كانت بساطا متواصلا من الخضرة والمنظر الحسن، بعدما غزاها أصحاب الإسمنت والقصدير، الذين يبدو أن الحكومات المتعاقبة قد غارت منهم، مما دفعها إلى مجاراتهم في فساد ما يقومون به، حيث التهمت بعضُ مجمعاتها السكنية ومصانعها و ورشاتها كثيرا من ذلك الاخضرار، وداست مخلفات المؤسسات الصناعية وبقايا مواد البناء التي يرمي بها أصحابها عشوائيا على ما بقي من خضرة تتنفس وسط الركام المبعثر في"انتظام" تتحدى العوامل الإنسانية القاتلة، ومن ثم تحوّلت البيئة الحاضنة لكل تلك التناقضات إلى مزبلة مفتوحة لم يسلم من أذاها حتى الحيوانات، التي باتت تقتات من النفايات المضرّة، حاملة بذلك التلوّث والأمراض إلى المستهلكين من خلال ألبانها ولحومها . إن هذه الوضعية التي حاولت أن أصوّرها بالكلمات، قد تكون ُمجمّلة بعض الشيء، عن الحقيقة المنتصبة على طول طريق سكة الحديد، ولذا فإنني أدعو جميع من يعنيهم الأمر ومن بيدهم الأمر كله، أن يسارعوا إلى تطويق هذه المأساة الوطنية، للحد من انتشارها أولا، وإعداد ما يشبه خارطة الطريق ثانيا، تزيل عن المنطقة التشوّهات التي لحقت بها، وتعيدها إلى وضعها الطبيعي، وتساهم في بناء بيئة سليمة بطبيعتها وعمرانها وصناعتها وإنسانها، ولا أدخل في تفاصيل ما يجب أن يكون عليه ذلك العمل، إنما أؤكد أن تجزئة المشكل وتقسيمه إلى مجموعة من الخطوات تقطع واحدة فواحدة، عبر مراحل مضبوطة محدودة، هي البداية الصحيحة لاستئصال المعضلة، والتأكد من زوالها وعدم استنساخها في أماكن بعيدة عن منبتها، وحتى لا نتآلف مع التلوّث والتشوّه والاّتساخ، ويصبح جزءا أساسيا من نمط معيشتنا، وإلا فلنقرّ بالواقع الجديد الذي أفرزه التغيير الذي ابتلع قيّم المجتمع، ولنلغِ من قاموس حياتنا، البيئة وضرورة حمايتها، و»لنفرح« بمكاننا خارج مجموعة العاملين على بعث بيئة خضراء طاهرة نقيّة تسر الناظرين، فذلك حديث وفعل غيرنا، أما نحن فلسنا إلا مجترّين لكلام مستورد لا يحمله أي منا على محمل الجد ...