بقلم الدكتور محي الدين عميمور/: قضيت الأيام الأخيرة من يناير الماضي في القاهرة للمشاركة، مع زملاء لي برلمانيين، في أشغال مؤتمر ومجلس الاتحاد البرلماني التابع للمؤتمر الإسلامي (ولن أتناول الأشغال بخير أو بشرّ، بعد أن سمعت أن عندنا من استاء لتناولي نشاطاتنا البرلمانية على منابر الصحف، ورأى فيه رجْسا جعله ينتقدني لدى رئيس المجلس، بل إن صحيفة بالفرنسية ثارت عليّ إثر زيارة برلمانية للكامرون كتبت بعدها أنني لا أفهم سر اضطراري إلى المرور بعاصمة الجن والملائكة لكي أذهب إلى ياوندي، وهو ما رأته الصحيفة كشفا لسر خطير قالت عنه أنه كان علي أن أرفعه أولا إلى رئاسة المجلس) وأحسن سفيرنا عبد القادر حجار استقبالنا، وحجز لمن أراد فندقا مناسبا، وزودنا بوسائل الانتقال بين الفندق ومقر المؤتمر، وأقام على شرفنا حفل عشاء متميزا، ثم اصطحبنا في جولة إلى القصر الذي اشتراه ليكون مقرا للسفير، حيث سيستطيع كل من يجتاز النيل في منطقة الزمالك أن يرى العلم الجزائري يرفرف أمام مقر يشرف العلم ويُشرفه العلم في أجمل الأماكن على كورنيش النهر الخالد، مقارنة بأعلام توجد فوق مبان نراها في بعض البلدان كأنها أكواخ، وهو إنجاز انتزعه حجار ويضاف إلى إنجازه في طهران. وكانت لنا مع عبد القادر في بعض الأمسيات جلسات تطول وتقصر حسب التزامات كل منا، وعادت بنا الدردشة يوما إلى نهاية الثمانينيات حيث كان حجار سفيرا في ليبيا. كنت وصلت إلى طرابلس بدعوة شخصية من مؤسسة ثقافية ليبية، مع الدكتور محمد العربي الزبيري والأستاذ عباسي مدني، الذي كنت أراه للمرة الأولى، ورحت في "لوبي" الفندق الكبير أتجاذب أطراف الحديث مع بعض الرفاق هناك، وكان من بين ما قلته أن الأمويين سرقوا الدولة في عهد معاوية وحولوا الخلافة إلى حكم فردي، وفجأة انطلق من ورائي صوت نسائي غاضب يحتج ويقول إن "الأمويين هم بُناة الشام"، وأجبت على الفور وأنا ألتفت إلى السيدة المتحمسة، بأن "الشام هي التي بَنت الأمويين وليس العكس"، واستشهدت في ذلك بما أورده الأستاذ العقاد في كتابه "معاوية في الميزان". كانت السيدة هي منى واصف، الفنانة السورية الشهيرة التي أسعدها ما قلته، وتواصل الحديث إلى أن التحق بنا الأستاذ عباسي، فرحت أقدمه للحضور الذين لم يكونوا سمعوا عنه، وعندما وصل إلى منى مدت يدها له ولكنه رفض مصافحتها ووضع يده اليمنى على كتفه الأيسر مكتفيا بغمغمة وبهزة رأس، وابتسمت الفنانة الكبيرة وعالجتْ حرجي بقولها أنها تتفهم الأمر. لكن الجن الأزرق ركبني (ولست أدري لماذا هو دائما أزرق) ووصل الأمر إلى حجار الذي تجاوز حرجُه حرجي، حيث كان فوجئ بوجود الشيخ في العاصمة الليبية، وتوتر الجو بيننا وانكمش كل على نفسه. ولم ألتق الأستاذ عباسي مدني إطلاقا منذ زيارة ليبيا في 1989، وكانت لي مواقفي المعروفة والمكتوبة من التيار الذي يُمثله، وعرفت العلاقات معه توترا واضحا خلال حوار جاف احتضنته الجزيرة عشية الانتخابات الرئاسية الثانية، وأعترف أنني كنت فيه بالغ الحدة مع الشيخ، لأنني لم أنس موقفه مع منى واصف، وهو ما قالته الفنانة السورية يوما بصوت عال للفريق قايد صالح على مائدة غداء جمعتهما وآخرين في افتتاح تظاهرة سنة الثقافة العربية في الجزائر، بعد أن قبلتني بكل مودة واعتزاز أمام دهشة كثيرين. وعندما استرجعنا ذلك كله في القاهرة بعد حدوثه بنحو عشرين سنة، فوجئت برفيق يروي أن مسؤولا رفيع المُستوى في مؤسسة بالغة الأهمية قال لرئيس الجمهورية عشية تعييني وزيرا للثقافة والاتصال في أوت 2000 بأنني أرسلتُ من باكستان، حيث كنت سفيرا لبلادي، رسالة تهنئة للشيخ عباسي إثر فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدور الأول للانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991. وكان للمفاجأة سببان، أولهما أنني كنت أجاهر دوما بانتمائي لجبهة التحرير الوطني وتصرفت دائما على هذا الأساس، ولم أكن أكتفي بالمواقف الشفوية بل أكدت ذلك، عندما لم أكن أرتبط بوظيفة رسمية تفرض واجب التحفظ، في عشرات الكتابات التي كان عيبها الرئيسي أنها كانت تكتب باللغة العربية، وبالتالي فلم يكن من المنطقي أن أهنئ من يواجهها بالخصومة. والسبب الثاني هو أنني ألتزم بمنطق الدولة، ولا أسمح لنفسي، كديبلوماسي، بالخروج عن متطلباته التي تتمثل أولا وقبل كل شيئ في عدم الانزلاق وراء أي مشاعر حزبية أو مواقف شخصية، وبالتالي فلم يكن من المنطقي أن يُرسل ممثل الدولة الجزائرية تهنئة لحزب معارض في ظروف مشبوهة. وتذكرت على الفور تصريحا كان "علي تونسي" قد أدلى به في السنوات الماضية وندد فيه بكتبة التقارير الذين لا يختلفون في شيئ عن "شاهد ما شافش حاجة"، كعميل المخابرات السابق الذي كتب عني بعد فراره من الجزائر أنني طبيب أسنان، بينما أكره أنا كل ما يرتبط بطب الأسنان، وقال أنني كنت صف ضابط في البحرية بينما يحمل الأطباء رتبة الضابط، خصوصا إذا كان مثلي من أبناء جيش التحرير منذ 1957. وأعترف أن التنديد كان يجب أن يتوجه أساسا لمن يُصدقون فعلا بأن هناك أرانب تخرج من قبعة الساحر المبتدئ، ولكن أحدا من هؤلاء لم يطرح عليّ الأمر على الإطلاق، ولم أسمع به في حينه. وهكذا عرفت مؤخرا سر العراقيل التي واجهتني منذ تحملت، ولأشهر قليلة، مسؤولية الوزارة، وفهمت خلفيات الهجومات والحركات الانقلابية والتظاهرات الاحتجاجية وأوامر التعتيم التي تعرضت لها وجعلتني أفكر أكثر من مرة في الاستقالة، لولا أن أثناني عنها الصديق عبد العزيز بلخادم، الذي زارني في بيتي أكثر من مرة ليهدئ من ثورتي على عداء متزايد لم أكن أجد له سببا، وأشارت الأصابع يوما إلى مسؤولين في مؤسسة هامة. ومع ذلك صمدت وواجهت وأنجزت، ولم أنبطح أمام مسؤولين أو حضرات، وتركت على الساحة بصمات يتذكرها كل النزهاء. ولكنني لن أنسى أن أحدا لم يُحاول أن يسألني أو أن يُسائلني منذ عدت من باكستان، بعد أن كنت أتوقع ألا أجد وقتا كافيا لأجيب على كل من يحاول أن يعرف مني مباشرة صورة الوضعية في منطقة نمت فيها بذور الإرهاب الإجرامي التي زرعتها أيادي واشنطن لإسقاط النظام الشيوعي، ثم تخلت عن شباب نقي متحمس لم يجد من يُرشده ويأخذ بيده، بعد أن خدعته وضللته نفس الفتاوي التي تندد به اليوم. وهكذا فوجئت بالصمت والفراغ، حتى أن الكتاب الذي أصدرته عن المنطقة والذي كان الأول من نوعه، لم يقرأه جل الذين كان يجب أن يقرءوه أكثر من مرة. ولأنني أكره الجحود أسجل فضل الرئيس السابق اليمين زروال، ثم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، اللذين تجاهلا، في حدود المُمكن، فحيح الوسواس الخناس، وأترك للزمن وحده أن يكشف كل الأستار. *** انطباعات عابرة - *سعدتُ في الحفل الذي أقامه صالون غازي الثقافي بلقاء الفنانة الكبيرة وفاء عامر، التي قامت بدور الملكة نازلي في مسلسل الملك فاروق، وأدهشتني رقة الفنانة الجميلة التي لعبت دور اللعوب المتجبرة، وأسعدني تجاوبها وأنا أرجوها ألا تقبل أدوارا تقل أهمية عن دور والدة الملك المصري الراحل. وأسجل اعتزازي بالتكريم الذي حظيت به في الحفل، والذي سبقه تكريم خاص في العام الماضي. *** - * كتاب عاصمة الثقافة العربية الذي صدر في الجزائر ووزع على الوفود العربية الزائرة كان حافلا بصور النشاطات والاحتفالات التي عرفتها السنة، واختتم بصور كبيرة ملونة لكل من ساهم في نشاطاتها، لكن العبد الضعيف لم يحظ بصورة واحدة، حتى بالأسود والأبيض، واختفى وجهي من صور كل الحفلات التي حضرتها إلى جانب وزيرة لثقافة بدعوة كريمة منها، كما اختفى اسمي من كل إشارة لنشاطات السنة، التي تحملتُ مسؤولية المناداة بها في مؤتمر الوزراء العرب للثقافة في 2000، وبذلتُ خلالها، على ما أتصور، جهدا متواضعا سمعت عنه لوما من البعض، وأحسست أن خالدة تومي أدركت ما أشعر به فاكتفيت بذلك ونسيتُ الأمر أو لعلي تناسيته، فالمهم هو أن الجزائر كانت في الموعد. كلمات عشت معها )من رسائل وجهها محمد حسنين هيكل إلى الرئيس مبارك (. - *يُقال أحيانا، ظلما وتجنيا، أن الشعب المصري لا يعرف السياسة إلا عن طريق بطنه، والقول العدل هو أن ذلك حال كل الشعوب، إذ يكون مدخلُها إلى السياسة ما ترى من أحوال حياتها ومعاشها، أي ما تواجهه وتتعرض له في جميع شؤونها صباح مساء، فذلك في معيارها وزنُ الحقائق. - * لقد قبلتِ الأمةُ بتحدياتٍ كُبرى، وقامت على إنجازاتٍ ضخمة، ورعت مسؤولياتٍ جساما، ودفعت تكاليفَ نصرٍ غالٍ، ثم رأت غنائم النصر تخرج من حوزتها وتسلبُ من أصحابها، لتعطَى لمن لم يُساهموا في صُنعها، ومُنيت بالوعود وقنعت بالآمال ثم همّت بالغضب، وإذا بحق الغضب يُنتزع منها. - * النظام في اعتقادي يجتازُ أزمة، وهو مُطالب بالتفكير فيها بعُمق، وبصراحة، فأنا أعتقد أن النظام يُواجه أزمة هُوية تتطلب منه أن يُعيد تحديد القوى التي يُمثلها بالضبط (..) لأن الهُوية الاجتماعية لأي نظام هي جوازُ مُروره إلى السُلطة ومُبرّرُ بقائه فيها. - *إن التفسير البوليسيّ للتاريخ وأحداثِه سهل، والمنطقُ الذي يُغري به ينسجمُ مع الهوى، لكن الركون إلى مثل هذا التفسير أقرب منزلقٍ إلى الهاوية. - * سيادة الرئيس : إنك لست مدينا لأحد، لقد أرادوك لهم، ولكن المقادير أرادتك لنا، وهكذا يجب أن تكون دائما.