يعتقد الكثيرون أن تخاذل العرب الرسميين وضعفهم المزمن، هو قوة الكيان الصهيوني التي يظاهر بها جيرانه غير المرغوب فيهم، بل قد يكون وجودهم واحدا من الأسباب المباشرة في ضياع فلسطين شبرا فشبرا، وربما اقتنع الفلسطينيون-أخيرا والقدس تتهاوى أمام العالم وعلى مرأى أكثر من مليار مسلم- أن لحظة خروجهم من ثوب العرب العاربة قد أزفت، وحانت ساعة الخلاص الذاتي، بشرط أن يركبوا انتفاضتهم المقدسة ويحسنوا الركوب ... لم يعد خافيا أن العنف في المسألة الفلسطينية، هو صناعة صهيونية بكل مواصفاتها، وبشكل بدأ يهزّ حتى الضمائر النائمة في الغرب، أو المصرّة فيه على عدم رؤية الحق الفلسطيني، واتّضح جليّا أن ألدّ أعداء الكيان العبري، هو السلام الذي ضحك باسمه الصهاينة على الفلسطينيين والعرب أجمعين عشرات من السنين، وأضاعوا من عمرهم مئات الفرص، لاستعادة الحق الذي تساقطت من أجله وعلى جنباته أجيال وأجيال سبقت، تؤكد الأحداث المتسارعة على المنطقة، أن الإرهاب هو أحد عناوين هذا الكيان البارزة، وهو أحد أوجهه المكشوفة لكل من له بصر أو بصيرة، ولم يسلم منه حتى الأطفال الفلسطينيون الذين لم يبلغوا الحلم، حيث ُاغتصبت طفولتهم على المباشر، وُصفدوا بالأغلال حين نَقَلهم إلى محاكمه العسكرية في محاكمات يحرّمها القانون الدولي وتمنعها قوانين الاحتلال نفسها، ولكن يبدو أن حجرا في يد طفل يهشّ به عن هويته المصادرة، هي جريمة كبرى عابرة للأعمار والأجناس والمواقع، تسقط جميع القوانين الدولية والمحلية والأخلاقية، ومع ذلك ما زال الغرب الرسمي يباهي بديمقراطية ابنه اللقيط على غيرها من ديمقراطيات المنطقة . فرح المقْعدون بقبول الفلسطينيين إجراء مفاوضات بينهم وبين عدوّهم قبل عشرين عاما تقريبا، بل وانحازوا في كثير من الأحيان إلى خصمهم التاريخي على حساب شقيقهم، ورغم وضوح معالم الطريق الفاسد، فإنهم كانوا- بضعفهم- يمنّون النفس بساعة فرج يعتقدون قبل غيرهم أنها لن تأتي، تعفيهم من مسئولياتهم الدينية والقومية والإنسانية، و بعد ما أبطل المفاوض الفلسطيني مفعول المقاومة المسلحة، استعمل الأساليب الهشّة المتاحة في لعبة المفاوضات، ومنها الانتخاب الذي ُيفترَض أن نتائجه تعيد مَن جنحت به قدماه السياسية إلى ناصية الطريق الوطني والقومي، وجرت انتخابات تشريعية بديمقراطية شهد الغرب كله بنزاهتها، قبل أن يجهضها بعدما تبيّن له أنها خطر على" أمن إسرائيل" باعتباره رأس مصالحه الحيوية في المنطقة، وتهدّد- بما أفرزته من قيّم جديدة في الوصول إلى الحكم- أنظمة عربية ظلت منذ تركيبها سدّا أمام شعوبها، في الوصول إلى استرداد الحق الذي يقع على مرمى خطوة وجحر، بل سعى هذا الغرب"الديمقراطي"إلى جعل السلطة الفلسطينية، كيانا ميتا وقد حوّلها إلى نسخة مصغّرة- ولكن مشوهة- من نظام الحكم العربي بكل ميزاته الرديئة والسلبية، لم تستطع منذ رحيل الرئيس المغتال، الزعيم ياسر عرفات غير تقسيم الفلسطينيين إلى معسكرين ضعيفين، مازالت العداوة والبغضاء بينهما تتضاعف، بل تكون السلطة الفلسطينية بالإبقاء على حالة التقسيم والتنافر وتوفير أسباب التناحر الأخوي قائمة، جرّدت نفسها- في أية مفاوضات قادمة- من سلاح المقاومة الفعّال . ألهت إدارة الاحتلال فلسطينيي السلطة بمفاوضات فارغة، كانت أثناءها تلتهم مزيدا من الأرض، وتهوّد العديد من المعالم الدينية والتاريخية، وترحّل المقدسيين بعد أن تنزع منهم منازلهم، وتفخّخ المسجد الأقصى بما تحفره من أنفاق متداخلة متقاطعة تحته، لتخرج بما يسمى كنيس الخراب قبالة المسجد، في انتظار لحظة تفجيره، تحقيقا لنبوءة أحد مرضى التطرّف اليهودي القائل بنزول المعبد الثالث المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، بمجرد بناء"خرابهم"، ولم ينتظر الشعب الفلسطيني مفاوضيه، الذين يشحتون مع زملائهم العرب سلام الذل، وانطلقوا في انتفاضتهم الثالثة التي باركتها الشعوب العربية والإسلامية وكل الأحرار في العالم، قابلتها إدارة الاحتلال بوحشية تنم عن منبتها، محاولة جعل الصراع بينها وبين أصحاب الأرض، مزيجا من الصدام الديني والعرقي والثقافي والاقتصادي والاستراتيجي، وبدل أن يصطف المفاوضون الفاشلون خلف أبطالهم الأطفال، راحوا يحاولون إفشال هذه الانتفاضة، مرّةً بالرسائل التي يرسلونها حول استعدادهم للدخول في مفاوضات تحفظ لهم البقية القليلة الباقية من ماء وجوههم، على أن يقول أصدقاؤهم الصهاينة فقط إنهم يجمّدون الاستيطان، وهو الذي سرى في أرض لم يعد لها وجود في وثيقة المبادرة العربية المحروقة في أيدي العرب وقد اتسخوا بحبرها، وربما سيُعميهم رمادها في وقت لم يعد بعيدا، ومرّة بتحجيم الانتفاضة الشعبية، والتقليل من شأنها، وتقليم أظافرها، وكأنهم طابور متقدّم في شرطة الاحتلال وجنوده . يواجه الأطفال- وهم مستقبل فلسطين- بشجاعتهم النادرة، الجبن الصهيوني المتخفيّ وراء الآلة العسكرية المتطورة، بل وكثيرا ما اضطربت البندقية في يد أصحابها، وأخطأت تصويبها أمام حجر يعرف أهدافه بدقّة، غير أن الذي يدعو للنحيب على"أمة ضحكت من عجزها الأمم" أن منظر الجندي الصهيوني- في حركته التي تشبه حركات القرود وهو ينهش بكلبه أو بدونه امرأة عربية أو طفلها في فلسطين- لم يعد يثير شيئا في تحريك الكرامة العربية التي يبدو أنها ماتت، حتى أن بعضهم استثمر في فقر العائلات الفلسطينية التي يحاصرها الحصار، وتطوّع في فتح بيوت للدعارة، تشغل عددا من بنات تلك العائلات في مدن النجس خلف الجدار العازل، يموت الأطفال وهم ينتفضون، وتهان النساء وهن تزغردن على الأبطال الصغار، وُيمنَع الكهول من الوصول إلى المسجد الأقصى للصلاة، وتجد هناك من يضع الحواجز في طريق قطار الانتفاضة الذي انطلق، بل هو مستعد لاستئناف المفاوضات مع الصهاينة من أي محطة، شريطة أن يقولوا إننا نجمّد الاستيطان، ولن يقولوها، وهم الذين لم يحترموا الرقم الثاني في إدارة أقرب حليف استراتيجي لهم وقد جاءهم متغزلا بتوراة الصهيونية، في أطول قصيدة للتذلل السياسي، جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي الذي ذكّر الجميع، بأن أمن إسرائيل هو أولوية في الإستراتيجية الأمريكية، لأن وجودها هو أكبر مصلحة أمريكية، بل هو وجود أمريكا ذاتها كما أكدت ذلك وزيرة الخارجية الأمريكية لبعض يهود أمريكا، والتي نسيت أن تقول فقط إن إسرائيل هي الولاية الإحدى والخمسون الأمريكية، ولو قال هؤلاء الصهاينة ما ينتظره المرتجفة قلوبهم، فعماذا يتفاوضون والاستيطان قضم كل الأرض المحتلة، حتى تلك الموعود بعضها للدولة الفلسطينية الضامنة لأمن إسرائيل ؟ هل سيتفاوضون عن خيمة ينصبونها في الشتات، كما نصبوها أول مرة قبل ستين عاما ؟ أم عن تأشيرة للهجرة إلى المجهول، كما فعلوا مع فلسطينيي العراق، حين جدّدت لهم الأمم الظالمة اغترابهم، بنفيهم إلى بقاع بعيدة من العالم ؟ يبدو لى أن كل أوراق اللعب الجاد، هي بين حجارة أطفال الانتفاضة، ويكون هؤلاء الأطفال المسندون بشعب ملّ من رؤية سياسيين ثابتين في مكانهم لم يتغيروا- أفكارا وأشخاصا- والزمن من حولهم والعالم يتحركان، قد أخذوا زمام المبادرة، وعلى القمّة العربية المزمع انعقادها بعد يومين في ليبيا، أن تدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني بعدم عرقلتها على الأقل، وهي الانتفاضة التي أرجو أن يحميها الفلسطينيون قبل غيرهم، بثباتهم وصبرهم ويقظتهم من ردة فعل الجامد إذا حركته الأحداث، ومن همجيّة عدوّهم المباشر الذي لا يقيم وزنا للقوانين والأعراف والأخلاق، ومن سفه شقيقهم الذي مازال مفلسا يبتاع في سوق السياسة المضطرب، وأن يصونوا جيّدا معابد حجارتهم الطاهرة، بل أن يضمّوها إلى أكفّهم، ويرجموا بها عدوّا صهيونيا ظاهرا يقاتلهم، وآخر عربيا نائما يعرقلهم، فلم تعد الطريق إلى تحرير فلسطين، تمر عبر مفاوضات عقيمة تنصبها قوى" الاستكبار"والظلم، شراكا للفلسطينيين، وترعاها أنظمة عاجزة مريضة، إنما الطريق إلى فلسطين، تصنعه الحجارة المقدسة، فهي قطعة من هول أبابيل ...