بعد ثمانية أشهر، ومع مطلع السنة المقبلة (2011)، ينظم في السودان أول استفتاء من نوعه في العالم العربي. إنه استفتاء تقرير مصير سكان الجنوب والذي يعني بكل بساطة أن هؤلاء سيخيرون بين البقاء ضمن السودان الواحد أو الانفصال وتشكيل دولة جديدة. هذا الاستفتاء ما كان ليقرر ويقبل، في سنة 2005، لو أن وضع السودان كان أفضل مما كان عليه وحتى على ما هو عليه اليوم؛ فهذا البلد العربي الكبير بمساحته وطيبة أهله وثرواته الزراعية والمعدنية ومياه النيل الذي يخترق أرضه، عاش مرحلة حروب وعدم استقرار لعقود متتالية. ولأنه من نافلة القول أن ضعف المركز (نقصد بذلك السلطة المركزية) يؤدي مباشرة إلى ظهور أدوار متعددة للأطراف ويفتح المجال مباشرة أمام التدخل الأجنبي في شؤون البلد؛ ولأن للأطراف المتعددة منطلقات ومصالح وأغراض مختلفة فهي تدخل في صراعات دامية ضد السلطة تارة وضد بعضها البعض تارة أخرى، وقد يدوم هذا الوضع لسنين طويلة مما يجعل البلد يفقد الكثير من قواه ومن قدراته ومن مصداقيته ومن دوره على المستويين المحلي والدولي، بل كثيرا ما تفقد الدولة، في مثل هذه الحالات، كل هيبتها مما يفتح المجال لكل أنواع التمرد عليها. إنه ما وقع بالضبط في السودان مع تمرد الجنوب ثم مع مشاكل دارفور. تمرد الجنوب السوداني، فتح المجال للتدخل الأجنبي، فمعظم الدول -من دول الجوار السوداني إلى إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية- تدخلت في الأزمة السودانية ودعمت المتمردين في الجنوب بالمال والسلاح وسعت إلى تقسيم السودان إلى أكثر من جزء، ولكل جهة خلفياتها وأهدافها. دولة عربية، من جوار السودان، تنطلق من حسابات ضيقة متعلقة باستغلال مياه النيل وترى في سودان موحد وملتفت إلى إنجاز برامج زراعية مع ما يتوفر عليه هذا البلد من مساحات شاسعة، ترى فيه خطرا على ما تعتبره من أمنها القومي: مواردها المائية من النيل. هذه الدولة كان في مقدورها مساعدة السلطة المركزية في السودان مع بدايات الأزمة لكنها لم تفعل بل سعت، بما قدرت عليه، إلى تأزيم الأزمة، وحتى عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في مارس 2009، مذكرة اعتقال في حق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمتي جرائم حرب وجرائم ضد البشرية، لم يصدر من هذه الدولة العربية موقفا مدعما للبشير ومنددا بموقف المحكمة الدولية باعتبار أن البشير ليس أسوأ الحكام العرب كما أن بلده هي من المؤسسين لجامعة الدول العربية. إسرائيل، من جهتها، تنطلق من إستراتيجية واضحة ومعلنة وهي أنها تعمل بكل قواها وبمساعدة كل اللوبيات الصهيونية في العالم الغربي وكذلك بعض الأنظمة العربية على تفتيت الدول العربية الكبيرة إلى دويلات صغيرة تبقى دوما عاجزة على التمكن من أسباب القوة. الولاياتالمتحدةالأمريكية، تسعى منذ عدة سنوات إلى أن تحل محل الدول الأوروبية في بسط نفوذها على القارة الإفريقية للسيطرة على منابع البترول وطرقه البحرية من جهة ولمحاصرة الصين الشعبية في القارة من جهة أخرى. ونلاحظ هنا أن للسودان علاقات وتعاون وطيد مع بكين التي تنجز العديد من المشاريع الكبرى في هذا البلد. مسألة الجنوب السوداني، كانت أهم ورقة استعملت من طرف الطبقة السياسية السودانية خلال الانتخابات الأخيرة، ففي حين سعت أطراف وطنية إلى إعادة انتخاب عمر البشير على أساس أنه الأقدر على خوض حملة انتخابية لإقناع السودانيين الجنوبيين بالتصويت لصالح البقاء ضمن دولة السودان الواحدة، عملت أطراف من الجنوب، في مفارقة غريبة، على دعم نفس الشخص على أساس أنه من ألتزم في اتفاقية نيفاشا، سنة 2005، بإجراء استفتاء تقرير المصير بالنسبة للجنوبيين، وبالتالي فهو الأقدر على تنظيم الاستفتاء. في نقس الوقت، عملت أطراف سياسية أخرى على محاولة إجهاض العملية الانتخابية أو التشكيك في جديتها ونتائجها مما كان يجعل السودان، لو نجحت مساعيها، في ورطة سياسية وأمنية أخطر من التي عاشها لحد الآن. مع إجراء الانتخابات، لم يبق أمام السلطة السودانية والرئيس البشير، على وجه التحديد، سوى القليل جدا من الوقت لتنظيم الاستفتاء. ولأن المصائب لا تأتي عادة منفردة فقد بدأت تظهر بعض الأصوات، من الشمال هذه المرة، منادية بحق تقرير المصير لسكان دارفور. بهذه الأصوات الانفصالية الجديدة، تكتمل الخطة الموضوعة للسودان والتي ترمي إلى تقسيمه إلى ثلاث دويلات ستبقى، إن تحقق ذلك، متقاتلة متناحرة على ترسيم الحدود واقتسام المياه والثروات المعدنية لعشرات السنين تكون كافية لتعصف بكل ما تبقى من آثار الدولة الحديثة. هكذا إذن، ففي الزمن الذي تتوحد فيه الدول الأوروبية، بمختلف لغاتها وأجناسها وأنظمة حكمها، في مجال سياسي واقتصادي واحد، وفي الوقت الذي تلتئم فيه شتات اليهود من كل فج لبناء أقوى دولة في الشرق الأوسط نشأت على مظلمة تاريخية، وفي عصر العولمة وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، يعود العرب إلى الطائفة والعشيرة والقبيلة. شعوب العالم التي تحكمها أنظمة مدركة لمسار العصر وفاهمة لآليات التسيير السياسي والاقتصادي وقارئة لمستقبل البشرية وطبيعة الصراعات الآتية، هذه الشعوب تبحث عن التكتل والتوحد بين بعضها البعض لمواجهة الأزمات والأخطار، بينما العرب يتآمرون على بعضهم البعض، ويقتلون بعضهم البعض، ويتحالف من تخاذل منهم مع بني صهيون على من لازال يؤمن منهم بالمقاومة كحل وحيد لاستعادة الأرض المسلوبة. السودان ليس وحده من يتعرض لمؤامرة التقسيم في العالم العربي، فقد جزء العراق قبله، على أساس طائفي، إلى ثلاثة أجزاء تتقاتل اليوم على الأصوات الانتخابية وعلى سلطة وهمية تحت العلم الأمريكي تاركة آبار البترول العراقي للشركات الأمريكية لتمتصها إلى آخر قطرة. هكذا هو العراق اليوم، وكذلك قد يكون السودان غدا والقائمة مفتوحة...